الاثنين، 12 ديسمبر 2011

زهرة (لا تنسني) روبرت الطائر هانز ماغنوس انتسنسبرغر

 
زهرة (لا تنسني)
روبرت الطائر
هانز ماغنوس انتسنسبرغر

كل شاعر حقيقي وصادق يعني إمكانيات جديدة للغة، منطقة جديدة يفتتحها شاعر بقلبه، بدمه. إهاب جديد لنفس الكلمات، ومعاني جديدة. بالنسبة للقارئ من المهم أن يعثر على شيء لا يعرفه لكنه يضع إمكانية العثور على ذلك: الضائع الغائب السر، في كتاب، في قصيدة، مجموعة شعرية لشاعر. والجميل أن تصدق نبوءة القارئ، والأجمل أنها تثير الشغف للتنبؤ واتباع النبوءة المعرفية.

سرٌ ما في هذا الكون يجعلنا نقرأ ونكتشف، سرٌ ما في هذه الحياة يجعلنا نشتهي أن نعرف أكثر قبل أن نغمض إغماضتنا الأخيرة. متعة الأكتشاف الرائعة التي تثير فضولنا المستمر لتجربة تلك المتعة كل مرة. ما أجمل الحياة، وما أجمل قراءتها:
(حتى يصل هذا الكتاب إلى يديك/ ربما سيكون مظلماً جداً لتقرأه/ لا نعرف عما إذا كانت الفراشات ستدبر أمورها بدوننا/ هذا ما يفترض، إرم الكتاب بعيداً/ واقرأ) ص35 بيبلوغرافيا
ارم الكتاب بعيداً واقرأ، لأن تعلم القراءة لا يعني معرفة شكل الحروف وطريقة نطق الكلمات ومعانيها، فتلك هي القاعدة الأساسية لكن فيما بعد يتحول القارئ الحقيقي من قراءة الكلمات المكتوبة إلى التعرف على شكل حروف الأرض، شكل حروف الأشجار وحروف المياه، وحروف الأقدار، والأحداث، حروف الإنسان، واللغات المبثوثة في الأرض. تأتي لحظة ما على القارئ فيها أن يترك الكتاب، أو يرميه بعيداً عن عينيه ويقرأ ما حوله. إقرأ أيها القارئ. هل تعلمنا القراءة حقاً؟ هل عرفنا الكتاب الكبير؟ كتاب الطلاسم التي نعيشها من حولنا. القارئ هو الأقدر حتماً على قراءة ما يحدث حوله، هو من لديه المقدرة على تركيب الكلمات من حروف الصخرة، والشجرة، والقطرة، والليل، والأنفاس.
عندها يكون ضرورياً جداً لمثل هذا القارئ أن يقرأ قصيدة لعدم قراءة القصائد:
(من ذا الذي ينادي بفمٍ فالت/ من حجرة الضباب؟ من ذا الذي يسبح/ حول عنقه عجلة مطاط، عبرة حفرة تغلي/ من بيرة وعل ودم؟/ ها هو ذا/ انقش هذا في التراب من أجله/ هو الذي لا يفك طلاسمه./ من هو ذا المدفون تحت الجرائد/ والقاذورات؟ من هو هذا الذي في بوله يورانيوم؟/ من هو هذا الذي خاطو عليه/ بلعاب المؤسسات اللزج/ من هو هذا الذي صبوا عليه الرصاص؟/ انظر،/ ها هو ذا، في عنقه سلك هوائي،/ هو الأكول المعقود اللسان بدماغه الأجرب./ أي آذان غامضة هي هذه،/ متصببة سكراً ناعماً جافاً، تلتف بفاتورة الأسعار/ وتتكوم في قسم السجلات/ في رزمٍ صماء متكدرة؟/ في الآذان المائلة/ للخونة المشدوهين/ أتحدث بارداً كالليل وبإلحاح/ والعواء الذي يبتلع/ كلماتي؟ تلك النسور الرسمية/ المدهونة تعزف على الأرغن/ عبر السماء المذهولة/ لتحمينا./
من كبدي/ ومن كبدك تأكل/ أيها القارئ الذي لا يقرأ.) ص45 قصيدة لعدم قراءة القصائد.

هكذا إذن تكتشف نسوراً رسمية تعزف على الأرغن. خفف على كبدك الألم أيها القارئ. هل تشعر بالألم؟ إنه بسببها تلك التي تأكل من كبدك، ومن كبدي، ومن كبد هانز ماغنوس انتسنسبرغر الشاعر الألماني المولود في 1929، ونشرت له مجموعة قصائد مختارة بالعربية بترجمة الشاعر فاضل العزاوي والشاعر خالد المعالي عن دار الجمل 2003م.
رغم ذلك فالنسور الرسمية كانت تأكل كبده هو الآخر، أيها القارئ ذا الكبد المأكولة. اقرأ قصيدة لعدم قراءة القصائد.
فيما بعد يتعرف القارئ على أن المهم هو الكلمات لا الكاتب، وأن الكاتب يجب أن يقدم أوراق اعتماده الحقيقية بالكلمات في كل مرة يكتب فيها، لأنها هي الكلمات من تقودنا لتعلم قراءة حروف الحياة، هي السر الأعمق كي نتعرف على عالم القراءة خارج الكتب، خارج القصيدة، وداخل الحياة، داخل الشعر.
هكذا نتقلب في الحياة كقراء في كتاب، ونحن نقرأ كتاباً، والكتاب في مركز عيوننا، لكنه يظهر أمامنا محاطاً بالعالم، وفي نفس الوقت جزءاً من العالم نفسه. كما أننا نحن جزء من نفس العالم. نقرأ بعيوننا، أو نسمع، لكن الحيز المحترم الذي يشغله الكتاب هو الحيز المؤثر في أذهاننا. نقرأ ونسمع الأصوات خارجنا، على البحر أو في البستان تحت الظل الحياة مستمرة من حولنا. نحن نقرأ، غرقى في قصيدة، كل قصيدة تصدمنا فنرفع أعيننا لنرى العالم من حولنا. نطل من نافذة الغرفة، العالم كما هو في مكانه. نتأكد من أن العالم لا زال في مكانه، لكننا ننسى أن نتأكد من أنفسنا، نحن الذين لم نعد في مكاننا.

نظير مشع: (.... قطعان من حملة جائزة نوبل/ توشك اليوم في الأورال وفي أريزونا/ على تحسين درجة التأثير/ حفاظاً على كعاب السيدات./ حذرٌ يسود المختبرات/ قطرة ندى تنسل من ثقب الباب،/ نزيز، رطب وإنساني،/ مضمون العمل، ومشحّمٌ ضد القنابل والموت،/ عرق أكثر سخونة ورقة./ زمن التجارب ولى/ من مسام العالم يسيل منذ عهد طويل/ فيضان جاف، ونحن نغرق،/ واقفين بكل نظام أمام شبابيك بيع التذاكر/ على ركبنا داخل ساعات بطيور معلنة للوقت، داخل اليود.)
يصر الشاعر على توسيع مملكة القصيدة، كي تستوعب الناس اليوم، كي يمكنها حقاً أن تصف شيئاً ما عن هذا الواقع. أن تضيء بسحرها الخاص على الفعل بالكلمة. ليس بالضرورة الحديث عن النص، لأن كثرة الحديث أيضاً تسبب التخمة. القصيدة وحدها كافية، يمكن استعادتها لمرات والغرق في صورها، الشعور بشعرها، لمس منطقتها المضللة، واستكناهها. عالم آخر يمكن رؤيته بشكل أفضل من الثقوب والمساحات الفارغة بين الحروف والكلمات.

أنا أكتب هنا ليس من أجل تقديم الشاعر وكلماته بشكل مباشر، أنا أكتب وأرافق هذا الشعر، كما لو في صندوق فيه أشياء مختلفة، لكنها متجاورة بسلام، قد تتشابه من بعيد، لكنها دائماً مختلفة. لنجرب هذه الطريقة فهي نافعة، ولها فائدة حقيقية يمكن الشعور بها بعد انتهاء القراءة والكتابة. أنا أكتب وتنطلي الحيلة حتى علي لأنني أكتب ولكنني أقرأ في نفس الوقت، وعلى هذه المساحة هناك قراءة/ كتابة في نفس اللحظة، بكل ما تعنيه هاتين الكلمتين من تفكير ومن جهد ذهني، مختلف/متشابه، أعمى/ مبصر.
بعماء: (ليكون المرء منتصرا/ عليه أن يكون مبصراً/ لكن العور/ شمروا عن أردانهم/ استولوا على السلطة/ ونصبوا الأعمى ملكاً)
لماذا تتشابه الأحداث بشكل مريب، ولماذا نتحدث عن مكان ونجد حديثنا ينطبق على أماكن أخرى، ربما لأسباب خارجه عن القانون وعن النظرية المعروفة والمتبعة عادة:
(عند الحدود المغلقة بالمزلاج يقف/ شرطة يلعبون لعبة البقرة العمياء/ يمسكون أحياناً بطبيب عيون/ مطلوب من قبل العدالة/ لقيامه بنشاطات مهددة لأمن الدولة./ كل السادة القادة/ يضعون قطعة شريط سوداء صغيرة/ فوق عينهم اليمنى)
قطعة شريط سوداء صغيرة تذكرني بموشي دايان، ألم يجد فكرة أفضل ليغطي عينه المشوهة، نظارة سوداء مثلاً؟
(وفي مكتب الحاجات المفقودة/ ثمة عدسات مكبرة ونظارات لا صاحب لها تتعفن/ سلمتها كلاب العميان/ رواد فضاء طموحون يضعون لأنفسهم عيوناً زجاجية/ آباء بعيدو النظر يلقون على أطفالهم مبكراً/ دروساً في فن الحوَل المتقدم)
من المهم أن نأخذ نفساً هنا،
(العدو يهرّب سائل البوريك/ لمعالجة غشاء العين الرابط لجواسيسه/
لكن المواطنين المستقيمين/ مع مراعاة كل العلاقات/ لا يصدقون أعينهم/ ولذلك ينثرون الفلفل والملح في وجوههم/ يتلمسون باكين كل المعالم التي تستحق النظر/ ويتعلمون أبجدية العميان.
يقال أن الملك قد أعلن قبل وقت قصير/ أنه ينظر بكل ثقة إلى المستقبل)ص43 بعماء.
لا غرابة أبداً في أنه هو نفس العالم، لأنه هو نفس الإنسان، نفس الذهن، نفس الثقوب، والعيوب. من الجيد للمرء أحياناً أن يلتفت لعاداته بعد زمن وأن يراجعها جيداً.

العادة
"العادة تجمل الأخطاء" كريستيان فورشتيغوت غيلرت
1.
لا يستهوي الناس العاديين عادة
أي شيء عند الناس العاديين.
وبالعكس.
فالناس العاديون يجدون أنه من غير العادي
أن يجدهم المرء عاديين.
وبذا لن يعودوا أناسا عاديين.
وبالعكس.
2.
يعتاد المرء
على أن يعتاد كل شيء.
هذا ما يسمى عادة
عملية التعلم.
3.
نشعر بالألم
حين يختفي الألم المعتاد,
لكم تمل العاطفة المستثارة
استثارتها!
فالإنسان البسيط يجد أنه من الصعب
أن يكون إنساناً بسطاً،
فيما يعد الشخص المعقد
مصاعبه
مثلما تعد الأخت المصليّة حبات المسبحة.
هؤلاء المبتدئون الأبديون، إنهم في كل مكان
هؤلاء الذين استنفذوا أنفسهم من زمان.
الكراهية أيضا عادة محببة.
4.
لقد اعتدنا
الذي لم يوجد قط.
فالذي لم يوجد قط
هو عرف معتاد.
حيوان عادي
يلتقي عند الركن المألوف
مجرماً معتاداً على الجريمة.
واقعة لم يسمع بمثلها من قبل.
الخراء العادي.
الكتاب الكلاسيكيون اعتادوا
أن يحولوا ذلك إلى روايات قصيرة.
5.
برفق تستقر عادة السلطة
فوق سلطة العادة.

دفاع الذئاب ضد الحملان
أكان على الصقر أن يفترس زهرة "لا تنسني"؟
ماذا تتوقعون من ابن آوى؟
أن يغير جلده؟ ومن الذئب
أن يقلع أسنانه بنفسه؟
ما الذي لا يعجبكم في المتعافسين السياسيين وفي الباباوات؟
ما الذي تبحلقون فيه هكذا بغباء وأنتم بملابسكم الداخلية
على الشاشة الكاذبة؟
من سيخيط للجنرال
شريط الدم على سرواله؟ من
سيفك الديك المخصي أمام المرابي؟
من سيعلق فخوراً صليب التنك
أمام سرته المقرقرة؟ من
سيأخذ البقشيش، قطعة الفضة،
قرش الصمت؟ ثمة
مسروقات كثيرة واللصوص قليلون؛ من
سيصفق لهم إذن، من سيقلدهم الأوسمة، من
سيلهث وراء الأكذوبة؟
انظروا في المرآة: جبناء
هيابين من مشقة الحقيقة
نافرين من التعلم،
ترمون بالفكر للذئاب،
حلقة الأنف هي أغلى حليكم،
ما من خداع أكثر غباء، ما من عزاء
أكثر رخصا، كل ابتزاز هو تساهل كبير بالنسبة لكم.
أيها الحملان، الغربان نفسها
مقارنة بكم أخوة:
كل منكم يفقأ عين الآخر.
بين الذئاب
يسود الإخاء.
يسيرون قطعاناً.
ليتبارك اللصوص:
مدعوين للإغتصاب
ارموا بأنفسكم فوق سرير الطاعة
العفن. مستعطفين
ما زلتم تكذبون. أنتم تريدون
أن تتمزقوا. لن تغيركم
الدنيا نفسها.

ترجمة القصائد فاضل عزاوي
قصائد مختارة هانز ماغنوس انتسنسبرغر
روبرت الطائر منشورات الجمل 2003