الأربعاء، 25 فبراير 2015

القراءة الحية والميتة على أبواب معرض الكتاب مسقط 15

عمل انعكاس الذاكرة للفنان حسن المير
القراءة الحية والميتة على أبواب المعرض

هناك قراء كما وصفهم القرآن: كمثل الحمار يحمل أسفارا، وهناك قراء يدركون أية آلة للسفر عبر الزمن والمكان هي الكتب. لكن ذلك السفر غير ممكن بدون القراءة الحية.
مررنا بالكتب، مرت علينا الكتب، طارت داخل رؤوسنا بأجنحتها الورقية، ثم تحولت إلى طائرات ورقية عالية جداً، صنعناها وأمسكنا بالخيوط، قد تقطع الريح الخيط ويطير الكتاب للسماء، قد يصطدم الخيط بأسلاك الكهرباء وتتطوح الطائرة هناك حتى يأتي عمال طوارئ الكهرباء ويفكون الكتاب من التكهرب.
الكتاب الذي لوحته الشمس، الكتاب الذي يغرق في الماء وينتفخ، الجسد الورقي الذي يحاول أن يصير جسداً حياً، ليجسد الحياة الكامنة داخله.
ونحن دلفنا في مكتبات ضخمة، ولا نريد الخروج منها، في المكتبات وجدنا المؤلفين يسكنون داخل كتبهم، كلماتهم حجارة لبيوتهم الأبدية، هكذا جلسنا ساعات طوال مع كتابٍ يفترض العالم وفاتهم منذ قرون، لاقينا كتباً لا زالت شابة شاركتنا قهوتنا وشاينا وتبغنا الشناصيّ رغم أن أعمارها تجاوزت القرون..
كان الحديث في الكتب يجري عن عالم آخر، أخٌ لهذا العالم، أو ابن، لكنهُ تحول لعالم اسطوري، في بحرٍ زاخر وعظيم، ومخاطر محدقة بمن لا يجيدون قراءة أعماق البحر من سطحه، لمن لم يتعلموا قراءة الرمل من خطوطه، والريح من نسيمها، والمطر من رائحته، والسماء من سحابتها، غرق محدق بمن لا يعرف كيف يقرأ صفحات الجبل والسهل والنهر والسيح الأجرد والسيح الخضير، من لا يقرأ يغرق، ومن لا يصنع مركباً ورقياً وسفينة ورقية وميناءً ورقياً ومدينة ورقية وبلاداً ورقية، يغرق من لم يتعلم فنون الإبحار في فنون المحيط لعالم الكتب.
الكتب مرايا، الكتب بحيرات، وأنهار، ومياه عواصف، وأعاصير، ومحيطات زاخرة بالكائنات والمخلوقات الغريبة،
هناك من لا يرى إلا الكلمات السوداء، وهناك من يرى تلك الكلمات نوافذ على بحار سحرية، وكل كتاب سفينة مبحرة، والقارئ قائد الدفة، والنوخذة، وعريف البحارة، والراكب والتاجر والسائح والمهاجر والعائد.
الكتاب أداة/ آلة قراءة، الكتاب آلة من آلات القراءة وأدواتها، هناك كتب تقرأ كما التأمل في منظر طبيعي، هناك كتب قرائتها كالجلوس على شاطئ البحر، وكتب قرائتها كالدخول في غابة مظلمة، وكالسباحة الطويلة، وكالغرق، وقراءة كالتفكير العميق، وكصناعة الربيع من الشتاء، أو قراءة كالدخول إلى بستان الملائكة، أو قيادة سيارة رياضية في حيّ الشياطين..
وهناك كتب باردة، رديئة، متهافتة كجوقة المتسولين حول السائح، أو كالعاهرات اللواتي تلفظهن حانات الفنادق آخر الليل، تتصيد القارئ ولا تقصد إلا نقوده، ثم لا تكترث به، تتركة في صحبة باردة، وحيداً يخيل إليه أنه في موضع المحسن، وهو في نظرهم المغفّل. يتعاون عليه الكاتب الرديء والناشر البائس والناقد المرتزق والقراء الجهلة. وبدون القراءة الحية لن يدرك ذلك ابداً وسيتحول إلكتاب عنده إلى علف وهو بالطبع إلى دابة كتب.
قد تكون الكتب أشرف ما يمكن فيه صرف الأموال، وربما كان من يمتلك الكتب تتبارك أرزاقه وتتنامى، يمكن أن من يشتري مزيداً من الكتب تقوم ملائكة برعاية رزقه وكفافه، يسخر له الأمير سليمان كما سُخر سليمان بن المهلب ليخدم الخليل بن أحمد، لكن لأن الخليل قارئ حي فلا بد أن يأتي يوم يقول فيه لرسول سليمان:
اخبِرْ سليمان أنّي عنهُ في سِعةٍ وفي غنىً غيرَ أني لستُ ذا مالِ/ سخٍ بنفسي أني لا أرى أحداً يموت جوعاً ولا يبقى على حال/ .. والفقر في النفس لا في المال تعرفهُ ومثل ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ..
حتى لو قيل أن طلبة الخليل يجنون بعلمه الذهب والخليل لا يجد ما ينفق به على بيته، فقد كان الخليل يكسب العريض والعروض من نفس المستقبل ويترك للقراء الموتى والوشيكي الموت العَرَض الزائل.
الأدوات أهم من الكتاب، وداخل كل كتاب توجد كل الأدوات لصنع القارئ الحقيقي الناقد، الفعال، الحيوي، الذي يستطيع عصر الكتب وطرح الزائف ورفع الحقيقي. إذا لم يوجد ذلك القارئ فسيتحول إلى عدد ضمن أعداد لا حصرية من القراء الجهلة الذين يتحولون بالتدريج إلى أمناء مخازن كتب، لا هم يدركون قيمة ما يختزنون ولا يستطيعون الاستفادة من قيمة الكتاب في الحياة، لا يساعدهم الكتاب ولا يسعفهم.. تجتمع في مكتباتهم كل الخطايا، رداءة الكتاب الفاشلين ولصوصية الناشرين البؤساء، وأمنياتهم الحماقات، يمتلكون كل الكتب التي يتمنون قراءتها لكنهم لا يقرأونها، كالمصابين باللعنة..
القراءة الحية وليست الكتب هي التي تحررنا من السجون التاريخية، من أحكام السجن الواقعية، من السجون السياسية، من سطوة الأفكار البدائية، من سجوننا الذاتية، من السلطات الثلاث، ومن السلطة الرديفة الرابعة، تحررنا القراءة الحقيقية من كتب أخرى، ومن الكتب نفسها، تصنع القراءة الحيوية لنا أجنحة، وتجعلنا نطير، تمنحنا قوة فعالة، تزلزل المراكب الرديئة، تفضح الكذب، وتعمّر ما يبقى، تحررنا القراءة من سطوة الهيمنة، من متلازمة استكهولهم، ومن كل وهم، كي نعرف حقيقة العيش وننظر بصفاء للقيمة الفعلية للحياة الواحدة..