الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

قراءة في نار البيت: لهيب الحياة


قراءة في نار أبي القاسم الشابي التي اتقدت ذات نهار


إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ينطلق بيتٌ شعريّ ٌ على أفواه الناس، يكثرون من ترديده، وإعادته، يريدون منه أن يُعبّر عنهم. هكذا يأخذ البيت الشعري حيزه الحقيقي، البيت الذي يتيح نفسه للشعور وللاستقراء، يقودنا عبر اتباع خيط السطر / البيت إلى قصيدته، هناك حيث يمكن الحصول على فهم شعري أكثرَ اقتراباً من الحقيقة.
حياة الشهاب

منذ أن توالت أخبار تونس الخضراء جداً بدأت ألسنة الجميع تردد البيت الشعري، لا أعرف كم هم الذين فكروا في استعادة القصيدة بأكملها، في هذا الزمن اللاهث، تلك القصيدة، ويا للمصادفة لمن لم يصادف قبل تلك الصدف الشعرية، قائلها هو التونسي الأخضر بلقاسم الشابي.
القصيدة المعنونة بإرادة الحياة في ديوان ( أغاني الحياة) 1980م عن الدار التونسية للنشر ( نشرة خامسة) حيث على الغلاف الخارجي لن نجد إلا ذلك الشطر العجيب ذاته يبتسم ويُقرئنا ذاته: ( إذا الشعب يوماً أراد الحياة).
أبو القاسم الشابي المتوفى عام 1934م هو اسمٌ لتلك النفس الشعرية التي مرت سريعاً على الحياة، سريعاً كالشهاب الثاقب، ذلك المرور المعروف في سير الشعراء الرائين منذ طرفة بن العبد حتى نوفاليس في العصور المتأخرة، ذلك المرور الذي تحول بأكملهِ إلى أبيات شعرية. أبياتٌ قيلت بحساسية شعرية مفرطة وسرعان ما اشتعلت بشدة وقوة، ذلك الاشتعال الذي أهلك طاقات أجسادهم الرهيفة، وأذوى بغصن حياتهم سراعاً، شعرية لا تعرفها جلافة شعور من تطول أعمارهم.
الشابي الذي أفل نجمه السريع الاشتعال في الرابعة والعشرين، حلّق في حياته المحدودة بتلك الأعوام البسيطة في آفاقٍ هي خارج أفقنا المعروف والمرئي: روحٌ أنا مسحورةٌ في عالمٍ فوق الزمان الزاخر الدوّام. ومن فوق الزمن كتب أبو القاسم الشابي في دفتر بسيط ومتواضع أغانيه للحياة، تلك الأغاني التي حلقت فوق أساليب التحقيب الأكاديمية المستخدمة في قولبة الشعر تبعاً لمدارس جامدة، تلك الأكاديمية الغليظة التي نادراً ما تسعى لإدراك ما في الشعر من لهيب روحيٍ حي معدٍّ للخلود، وللسير مع خطوات المستقبل، أي خارج الزمن وفوقه.

بيتُ البيت
بيتُ إرادة الحياة هو مطلع القصيدة المنتشية بعذوبتها الفنية التي تتدفق تدفقاً يمكن الإحساس به واستشعاره: كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر، الكائنات تحدث الشابي لأنه حليف الغابة ومرتادها الدائم، وهو الذي يعتبرها محراباً لمعبد الجمال في هذا الكون: في الغاب في الغاب الحبيب وإنهُ حرمُ الطبيعة والجمال السامي. ولذلك يستطيع من طول مكوثه في ذلك المحراب وبتلك الصحبة الرائعة مع أرواح الحياة البكر أن ينقل لنا ذلك السر الخبيء للحياة، السر الذي يمكن تلقينه للناس: لمحبي الحياة: ومن لم يعانقهُ شوق الحياة تبخر في جوِّها واندثر/ فويلٌ لمن لم تشُـقهُ الحياة من صفعة العدم المنتصر.
الحياة مقابل العدم، إما شوق الحياة وإما الفناء العدمي الغبي الخالي من أي جمال، ومن أي روح؛ كلمتان يرسمهُما الشاعر ببصيرة نوره في الشعر، ويضع رسمهُ عالياً في جسد القصيدة، فيُجسّد بفعله معناهما والأحياء بالخيار، إما الحياة وإما العدم الفاغر فاه لابتلاع كل الموتى: وقالت لي الأرضُ لما سألت: أيا أمُّ هل تكرهين البشر؟ / ' أباركُ في الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطرْ / وألعنُ من لا يماشي الزمان، ويقنعُ بالعيشِ عيشَ الحجر/ هو الكونُ حيٌّ يُحبُّ الحياة، ويحتقرُ الميْتَ مهما كبُر' عيشُ الحجر عيشٌ معلوم، عيش تطبيقي، لا أشك أن أحداً من هذا العالم المعروف لا يعرفها؛ ذلك لأننا نمارسه يومياً، نحاول أن نغطي ذلك العيش بالثياب وبالمشاعر، وسرعان ما تنزلق المشاعر والأسمال عن الحجر. ويظهر الحجر عارياً يمثل لعنتهُ الأبدية، لعنة حياته كما قال الشابي وتمثّل: عمرٌ ميتٌ، وقلبٌ خواءٌ، ودمٌ لا تثيرهُ الآلام/ وحياةٌ تنامُ في ظلمة الوادي وتنمو من فوقها الأوهامُ/ أي عيشٍ هذا وأي حياة؟! (رُب عيشٍ أخفُّ منهُ الحِمام).
عيش الحجر الشقي، الحجارة التي من ثقلها وجمودها تُفشل حتى انتفاضة الحجارة، جمودُ حجارة الحاضر لمصلحة حياة أصنام الماضي، وتبذير العمر والعلم والمعرفة لإحياء ذلك الماضي بالمال والرجال والسلاح والقوة والعقول: أنت دنيا يظلها أفقُ الماضي وليل الكآبة الأبديُّ / مات فيها الزمانُ والكون إلا أمسها الغابرُ القديم القصيُّ / والشقيُّ الشقيُّ في الكونِ قلبٌ يومهُ ميتٌ وماضيهِ حيُّ / أنت لا شيء في الوجودِ فغادرهُ إلى الموت فهوَ عنكَ غنيُّ.
الموت مطبقٌ ونحن منذ عقود في الشتاء، نفس الشتاء الاستعماري، الذي ذهب وخلف وراءه الشتاء العسكري:
يجيء الشتاءُ، شتاء الضباب، شتاء الثلوج، شتاءُ المطر/ فينطفئ السحر، سحر الغصون، وسحر الزهور، وسحر الثمر.
يجيء الشتاء بالموت: ويفنى الجميعُ كحُلمٍ بديعٍ، تألقَ في مهجةٍ واندثر؛ حيث الأعمار شرارات سرعان ما تنطفئ وتندفن، أسماء مجردة تمر على الحياة تعيش عيشة الحجارة ثم تسقط لثقلها، لكن الشابي يبشرنا منذ زمن بأن تحت الضباب وتحت الثلوج والمدر بذور، هي بذور الحياة القادمة، تلك البذور التي ستستيقظ في مستقبلٍ ما بعد تغيّر الدهر وصروفه، مستقبلٌ كان وصار حاضرا اليوم، تستيقظ فيه بذور ظامئة للحياة وإلى النور، بذورٌ تظل تناجي النور حتى يأتي الربيع ويقبلها القبل التي تمنحها الحياة ' وقبّلها قُبلاً في الحياة تعيدُ الشباب الذي قد غبر/ وقال لها: قد مُنحتِ الحياةَ وخُلدت في نسلكِ المدخر' هكذا تتعلق تلك البذور في الحياة بجذور أشد، وأكثر، تتعلق بحياتها، يعانقها شوق الحياة فتعشق صعود الجبال وتكره عيش الحُفر.
بذلك العشق الحيوي والحب العميق لحياتها تنتفض وتهتز وتميد كالبحر الزاخر لتعانق حياتها حقاً وصدقاً، متجاوزة كل صخرة وكل هاوية؛ تسيل سيولها المشتعلة بالنيران، مستعينةً ببيت شعري لإظهار روحها الكبيرة القوية الهائلة، القوة التي تتجاوز الحدود المعقولة للحسابات المنطقية والسيناريوهات المتسيسة، تستعين ببيت شعري يبدو هزيلاً وأصغر من سطرٍ مكتمل لكن كم يشعل من النيران.

نوع النار
' وأُعلنَ في الكونِ أن الطموح لهيبُ الحياةِ وروحُ الظفر/ إذا طمحت للحياةِ النفوس فلا بدّ أن يستجيب القدر'.
كنا نظن قبل استعادة البيت الشعري وقصيدته أن اللهيب هو لهيب النار، لكن من يستطيع حقاً أن يدعي القدرة على التمييز بين لهيب النار ولهيب الحياة؟ من كان يعرف أن ذلك الاشتعال الذي ظهر في الصور المتناقلة وهو يغمر جسد محمد البوعزيزي لم يكن اشتعال نار، بل اشتعال حياة؟ كان ذلك إذن هو لهيب الحياة المظفر يغمر الجسد، تلك الروح البوعزيزية التي ولجت النار كأنها تتمثل بقول قالته الريح: الروح، في القصيدة: ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر:/ إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ ركبتُ المنى ونسيتُ الحذر/ ولم أتجنب وعور الشعاب ولا كُبّة اللهبِ المستعر' روحٌ تملك شعوراً عميقاً بأن في اللهب المستعر درباً إلى لهيب الحياة ذاتها، إلى اللهيب النوراني، اللهيب الجميل لهبُ روح الجمال التي تزخر كالنار حين تشتهيها نفس الشاعر: وهتفت يا روح الجمال تدفقي كالنهر في فكري وفي أحلامي / وتغلغلي كالنور في روحي التي ذبُلت من الأحزان والآلام / أنت الشعور الحي يزخرُ دافقاً كالنار في روحِ الوجود النامي ' إنها نار الجمال إذن، نار الشعور الحي هي التي اشتعلت في جسد البوعزيزي، تلك الشعلة التي استطاعت بقوة روحها وشعورها إشعال لهيب الحياة نفسها وإيقاظها من غفلتها الطويلة. استطاعت إشعال نار الأرواح.
الشابي لا ينسى أيضاً أن يرسل من الماضي إلى المستقبل كلماته على لسان حفيده وابنه المتأخر محمد البوعزيزي بروميثيوس العصر: إن المعاولَ لا تهدّ مناكبي والنارُ لا تأتي على أعضائي / فارموا إلى النار الحشائش والعبوا يا معشر الأطفال تحت سمائي../ أما أنا فأجيبكم من فوقكم والشمس والشفق الجميل إزائي/ من جاشَ بالوحي المقدس قلبهُ لم يحتفل بحجارة البلهاء.
تلك نارٌ أخرى إذن غير النار التي تعرفها الناس والحجارة، نارٌ يراها الشابي من فوق الزمان حيث استطاع الوصول وكتابة أغانيه، وهو من ذلك المكان يستطيع تمييزها وإرسال أخبارها من الماضي إلى المستقبل، على الدوام بنفس الاتجاه من الذاهب إلى الآتي.
لسان النار
نستعيد البيت ونترنم به، يصير البيت الشعري منشوراً سرياً، وصفة سحرية لجعل القدر يستجيب للطموح، مثبتة للأبد في بيتٍ شعري، والأبيات الشعرية عصية على التدجين، أو إبطال المفعول، لأن البيت الشعري يظل يحتفظ بمفعوله وناره حتى في ثلاجة الموتى.
نردد البيت فخورين بمحفوظاتنا الأدبية، غافلين عن أن ألسنتنا ليست ألسنتنا، وأن الصوت ليس صوتنا، وأننا لسنا نحن من يردد البيت الشعري الآن فطالما رددناه، غافلين عن أن الذي يردده الآن آخر نحن فيه، فحين يتردد بيتٌ شعري على لسان الجميع فهذا يعني أن لسان الدهر هو الذي يردد البيت، يردده الدهر عبر تحقيقه في الشارع وجعله واقعاً ومثلاً على الأرض، لندرك أننا لسنا إلا مرددين:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة،
وها قد استجاب القدر.
مرحى للأعراس، للربيع القريب القادم، وبورك عطر الشاعر وهو ينفخ في ناي أغاني الحياة فيتردد صداها في الأرجاء الخضراء. وصداها يوقد النار.

الاثنين، 20 أغسطس 2012

الخميس، 16 أغسطس 2012

شمعة معاصرة في زنزانة حديثة*

إلى الذين هنا ولايزالون هناك.

نَعَمْ،
أشرقتْ شمسٌ في قلب الظلام، أضاءت الأرواح،
شربتِ الروحُ نوراً جديداً، مختلفاً، يضيء فقط في أقصى الأرواح.

من يأخذك إلى الأقاصي المظلمة يظنك خائفاُ، لا يعلم أنه أخيراً يجعلك وحيداً وعارياً مع نفسك.

هناك، مع ذاتك:
هل عرفتني؟ تسألك،
فتبكي وتضحك وأنت تعانق أخيراً ذاتك.

بكاؤك إجابةٌ نعَمِيّة: نَعَمْ؛
ضحكك معرفة مشرقة، بعرفان السلام؛ السلام بسبب النور الذي عثرت عليه في قلب الظلام: ذاتك.

وجدتَ نوراً وها أنت ترفع شمعة جديدة هادئة، لهيبها لا يتأثر بالهواء، لا يطفئه الماء؛ شعلةٌ سرمدية متقدة؛ كلما كانت في زمنٍ مظلم، كلما أشرقت أكثر..

أنت الآن في الأعماق الرطبة للظلام، لكنك تضيء،
أنت في الزنزانة التي في أعماق الظلمة، لكنك عثرت على الشمعة،
أنت رأيت شمعة وعرفت أنها ذاتك، رأيت شمعة وعرفت أنها روحك، شممتَ النار، وصلتكَ رائحة النور في الظلام.

وفي وحدتك:
في زنزانتك:
مع ذاتك تنشئ فكرة،
كما في لعبة الكريات الزجاجية لهيرمان هيسه.
الفكرة قصيدة مركّبة: لوغارتيمات شعرية، في خوارزميات موسيقية، بقوة معاني الروح، كلما أضفت إليها إيقاعاً أضاءت شمعتك،
تنهمك بالفكرة النقية، ينطقُ بها فمك في وجه سجّانك، تحيط به دون أن يشعر، يجلس داخلها مطمئناً، غافلاً أنك سجنته وتركت الباب الذهني موارباً في المتاهة وخرجت.
هناك الآن، في تلك الأعماق الذهنية لفكرة في فلج بحريّ، يجلس سجّانك مسجوناً، حبيسَ فكرة نيّرة، يبحث في النور وهو مُغيّبٌ عن ذاته.
تسجن سجانيك في فكرة، الفكرة ليست قضباناً، ليست زنزانة ضيقة مصمتة، بمكيفٍ حبيس، ليست جونيّة سوداء، وليست قيداً. كما ليست تعذيباً صوتياً.
مجرد شعاعٍ من شمعة مفقودة، يضيء، يظل يضيء؛
السجان يتبع الضوء الضئيل المنبعث من الثقوب الضيقة، كي يصل إلى ذاته ويخرج.
أنت الآن خارج الزنزانة، لكنك تفكر في الإنسان الذي خلّفتهُ بعدك، مسجوناً في فكرةٍ، هي عرضة للنسيان، لكن، كلما ازداد نسيانها ازدادت متانة، واتساعاً واختفاءاً؛ تخاف عليه من السجن الذي وضعته فيه، تظل تفكر أنك كنت قاسياً بفعلتك،
لكن.. تبرر نفسك، كما برر هو نفسه:
سجنتهُ كي أحرِّره.

السجان وحيدٌ الآن داخل فكرة من صنع سجين، كل الفكرة زنزانة ذهنية، وكل خيطٍ ذهني قضبان خلفها شاسع أفقي تسقط عليه الشمس بزاوية مائلة، تتعامد مع مرآة، وداخل المرآة لوحةٌ هي سؤال: من أنا؟
فكرةٌ بلا ضغائن، بلا كراهية، فكرة تجريدية، محفوفة بمشاعر وموسيقى ملونة لقصيدةٍ قوية، غنّاها بحارٌ قديمٌ في عرض المحيط، كلما ارتفع إيقاعها هدأ المحيط، وجاء نسيمٌ قوي راقصاً.
السجن حالةٌ ذهنية، تفك قيدها بفكرة هي معادلة، إذا وضعتها في  قصيدة شعرية تأخذك إلى وطن، ذلك الوطن هو نفسهُ: من أنا؟ أين أنا؟ هل عرفتني؟ انظر إلى المرآة..

خيوط:

  1. في المرآة ماءٌ إذا لمستهُ يسيل، كلما شربت منه عرفت، كلما عرفت أمكنك أن ترى ذاتك، وكلما رأيت ذاتك وصلت الحرية التي أخرجتك أول مرة.
  2. السجن رحمٌ وجودي جديد، تولد منه وحدك، تخرج منه لتشهق شهقة الولادة على هيئة ضحكة وبكاء. يتكرر الضحك والبكاء المعادل لضحك وبكاء كل المساجين.
  3. لاحقاً تتبعُ غيمةً لا تراها، أيها السجان اللطيف، تلك الغيمة هي أطراف صحراء شاسعة، على تخوم الظلام.
  4. غيمة الشمعة تعبرُ الربع الخالي والمحيط الهندي، في نفس الوقت، بهدوء وسكينة لا نظير لهما.

20 مايو 2011م

نشرت في مجلة نزوى العدد 71 يونيو 12م

الخميس، 9 أغسطس 2012


مقلوبُ الفاجعة.
1.
عندما يموتُ محمود درويش ميتتهُ الثالثة، فذلك يعني أنه لن يموتَ أقل من ورد، سيموت أكثر من حقل سماوي، ومحمود حين يموت لا يرحل وحيداً، بل يرحلُ ويتركُ الوحدة للكثرة الباقية، وحدة بلا جديد قصيدة أو جديد كلام في البُن والعنب النبيذ، أو شهقة طافية، أو مزيد من الدمع وسط الزحام، أو الحب بعدَ النهوض من النوم.

مقلوبُ فاجعته، أن يموت هوَ فنرحلُ نحن إلى الموت، لكن لسنا وحيدين جداً لأن الحياة في زمن محمود تعني أن نعود من زيارته محملين بسلال القصائد عن الحب، والزهر والبرتقال والنخلتين، وظل الفرَاش، لذلك حين يموت نعرف أن علينا أن نحاول أن لا نموت معه، كأنا قصائد.

كتبَ محمود من فجائعنا حبهُ للحياة، كتبَ شعرنا الداخلي، بقلب يرى مهمته أن يترجمَ عجم القلوب إلى فصيح الكلام.

أواخر ما عاش  صعد مختطَفاً من الأرواح، كي يتلقى الوحي على تلال قلبه، معيداً تكوين سفر الخروج الجديد، ليكتب عن مزمار داود الإنشاد الناقص، إنشاد الالتباس المُبكي، واقرأ، في اللحظة التي ولدَ فيها محمود درويش نفسهُ من جديد، ليكتبَ ما يبقى من جداريته.

ومحمود درويش شاعرُ مراثي مجيد له سطورٌ محينَ الدموع بالإنشادِ، المراثي التي كتبها محمود درويش تصلحُ للإستعادة الآن للخروج من (هواةِ الرثاء) إلى من يقال لهم تصبحون على وطن، وطن يُنقشُ ويُكتب ويستعاد، بالشعر.

نفس مراثي محمود لا تصلحُ لرثائه، لأنهُ ذئب أوقف العواء وحولهُ إلى أغنية ذئاب تنظر في عين القمر وتغيب هناكَ.

نهاية القرن نهض محمود درويش من بستانه الإعتيادي إلى البستان الوجودي الجديد، إلى السؤال المحير المقلق، إلى ذهابه الشعري بإطلاق نار الأسئلة واستعادة جرح رصاص الإجابة، الرصاص الذي دائما ما يطيش، الرصاص الطائش والسيوف الطائشة، والألسنة الطائشة، لكنها تخطئ دوماً القلوب الطائشة،
القلوب الباحثة عن ذاتها بشعرٍ شديد الطيش، شديد الولع، شديد العصمة، طيش يدٍ ترتفع أمام محمود درويش إلى أعلى من مستوى الفم،  لتلقي هي الشعرَ أيضاً، كأن الأيادي أفواه.

يد تكتب الشعر وتلقيه وسط الجموع، اليد الشاعرة. تستحق الإشادة،
هذا ويا قلب محمود درويش نقول لك بشأن القلوب ـ رغم آلامنا ـ : أنت قلب شاعرٍ وليست تلام قلوبهم إذا أخطأت وزنها، لأن وزن القلوب أول الوزن وآخر الوزن.
2.
يتعرى الكلام ويدخلُ في بحيرات القلوب، دون أن يكترث، لما يعتري القلبَ من ممكنات الوفاة السريعة، الوفاة التي تستحيل على الشعر، على الصوت واللغة والصورة الباقية في رسوم الكتابة.

هو القلب ذاتُ القلب، ذات الدماء، والقلب قلبٌ بين سهام الحياة، وسمام الممات، هو القلب.. بين الوجود وطعم الفجيعة، ما مات مات من القلب، وما هو آتٍ من القلب هذا الممات، وبينهما أن تعيش القلوب.

ومن يذهبون وحيدين جداً إلى المقبرة، ولا يرجعون مع الراجعين، يتركون أحبابهم في عهدة الماء، ماء الدموع، وفي عهدة الدم والقلب، قلب الدموع وقلب الدماء، والدمع ليسَ عزاء، ولكنهُ كالعزاء، لأن العزاء  هو الموت نفسه، حين يسير الجميع إلى المقبرة ولا يرجعون فذاك العزاء الوحيد.

ممالك شعرِ الكلام الكتابة، اخرجي من خيام العزاء، وتعالي، لأن العزاء عزاءُ الكتب، كتب تتعزى بفقد، وشعر عن الفقد، في الفقد لكن بقاءٌ وفقد، فقدٌ نقيدهُ بالكتابة كي نتحرر منه، لكن سنُفقد نحن وتبقى الكتابة، في القلب.
وفي القلب قيد كأن السلاسل مربوطة في القمر.

يموتون أي يرحلون، بمستشفيات بعيدة، تسافر أرواحهم من هناك لتعانق ما كتبته، وتبسم للأصدقاء الذين لم يضحكوا كعادتهم للمزاح الأخيرة، الأصدقاء الذين لم يدركوا بأن المزاح الأخير الثقيل ضرورة قلب.
الجميلون كمحمود حين يموتون إنما يصعدون إلى رب هذي الكتب.

يقولون أن كبار الشجر في فلسطين تقرأ أشعاره لصغار الشجر، ويقرأها الجسرُ للنهر والبحرُ للقادمين الجدد، وللعائدين..

لا تباكوا سيبكي الشجر، ستبكيه برتقالته، ولا تبكوا سيبكي الحصان الوحيد، ولا تذهبوا للعزاء الخبر، اذهبوا للقصائد، وأعيدوا قراءة مزهريته وجداريته، ستشق زيتونةٌ جيبها وتنوح، وستنشر أشجارهُ شَعرها وتهيل التراب، على رأسها.
فالذي ماتَ، ماتَ جداً، كأن لم يمت، شهيداً بناسفة القلب، بفدائيةٍ للحياة ..الذهب.

دعوا النخل يبكيه، واللوز والشعر والحب، على قدر هذا الجمال المصاب، الحنين البكاء، القوافي الشجر، الأغاني التي في الأغاني لدرويش، ولمحمود تلك الفراشة: (هكذا دائماً هكذا.. هكذا
من سماء إلى أختها يعبرُ الحالمون).

مجردُ أن يتعرى الكلام ليدلفَ ظِل البطينين وينام هناك أخيراً برسم السفر، يعني بأن الكلام يرى ما يريد، ويغمض عينيه حين يريد.
هذي القصائد أوصلن عاشقهن، إلى قلب قلبه، فأفنى الممات وأفنى العزاء وأفنى الرثاء، والعاشقات اقتصرن الحداد عليهن. ولم يبقَ غير القراءة، قلبُ عزاء.

ليس الخلود بسهلٍ على الراحلين المقيمين، وهذا العزاء الكبير الذي في الصحف، في المقاهي، يعزي خلود الرجل في الرجل، قلب وقلب.
يا قلبَ محمود أحسنت، يجوز لقلبك ما لا يجوز لقلب سواك، فاجعة القلب، وقلبُ الفواجع حتى تصير ازدهارَ حياة، أحسنت، لا لم تخنه، أنت بالذات، لا ..لم تخنه.


نشرت في جريدة الوطن العمانية أغسطس 2008م