الاثنين، 26 مايو 2014

في ذكرى أبي العلاء المعري الطائر الغريب


أبو العلاء المعري 
الطائر الغريب
النص السمعي على الإذاعة العمانية في برنامج ضفاف لصالح العامري


لمحة غرائبية، شيءٌ ما في مملكة الأشياء الفائضة عن مملكة اللغويات، شأنٌ أكبر من الكلمات، أمرٌ تشي بهِ التعابير لكن تعجزُ عن إمساكه، تشعرُ به القلوب، بثغرة غيابه في الجُمَل، وفراغ مكانه في الفقرات..

دع زمناً طويلاً يمر ليمكن للمارة في جادة الحياة إبصار أبي العلاء المعري جيداً..

حياةٌ استثنائية في عوالمِ معجزات العميان، الصبا الصغير اغتالهُ العمى،
لكن انطفاء العينين كان إشعالاً، احتكاكُ حجري زندٍ لإطلاق شرارِ الحياة التي يمكن إبصارها حتى اليوم واسمها هو نفسه: أبو العلاء المعري..

( يكررني ليفهمني رجالٌ كما كررتَ معنىً مستعادا/ كأني في لسانِ الدهرِ لفظٌ تضمّنَ منهُ أغراضاً بعادا)

بمرور الزمن يصبحُ المعري أكثر من معنى، يخرجُ عالَمٌ ويأتي عالَمٌ، تختلفُ أزمنةٌ في نفسِ الزمن، وصوتهُ رفيعٌ وعالٍ، يُطلقُ أذاناً موقّعاً يذمّ عصراً، يحنُّ إلى صبا شباب، يمسكُ دهراً ويسِمهُ بميسمِ الكلمات الحارة.



شمعة موقدة منذ إحدى وأربعين وألف سنة، النظر إليها يحتاجُ قراءةً متمهلة: شعاعاً شعاعاً، قطرةً قطرة، كل شعاع درجةٌ في سلمٍ ممتد من الأعماق المظلمة، حيث تتشابه أشباح الملائكة والجن،
مجرد حركة صامتة في الظلام،
إلى السماء النجمية، حيث النور والنار صوتٌ واحد.

( قد عشتُ عمراً طويلاً ما علمت بهِ حساً يُحسّ لجنيٍّ ولا ملك/ والملك لله  ما ضاعت أكابره ولا أصاغر أحياءٍ ولا هُلُك/ ان مات جسمٌ فهذي الأرض تخزنه وإن نأت عنه روح فهي بالفلك..)

العلاء مجرد كنية: 
(دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ ولكن الصحيح ابو النزول..)

ابناء الوحيد الواحد، ليسو من لحم ودم، أنجبتهم أنثى لكن ليست امرأة، يعيشون في المعنى، خارج الجسد، فلا يموت العلاءُ كأبيه، لا يسكنُون الدور بل يقطنُون الكتب، في خزائن المحفوظات، في المكتبات الضخمة، من مائة عامٍ لأخرى، عشر مرات مرت مائة عام، وكلما نظر أحد للعلاء رأى الأب، ذلك الذي تزوج المعرفة وأنجبت لهُ ابناءاً من شعرٍ ونثرٍ ورسائل.
(فلا تشغلنّي بالحديثِ وخلّني وأشجانَ قلبي فالحديثُ شجونُ)

ألف وواحد وأربعون عاماً، قنديلاً، في نهر الزمن، نور النهر ينبع من نفس العين، نفسُ البحيرة الصغيرة، التي في بيتٍ ما في معرة النعمان، مرةً مد ساقيته إلى بغداد، ثم سرعان ما قطع الساقية؛ عادت البحيرة للبيت الصغير، ولم تخرج منه، هناك تلك البحيرة، والماء أعمى أيضاً..
ثلاثة وثمانون عاماً، وبيتٌ في معرةِ النعمان ما قبل حشود الزمان، تنظر لآثار أقدام الكتب التي خرجت من تلك البحيرة وجابت العالم، فتحت أبواباً لما فوق ووراء المكان، أوقدت حشوداً من الأفكار، أعطت شباباً حيوياً للشباب الجديد، طاقة ذكية لطاقة الدنيا، هل قلت الدنيا؟ نعم هي الدنيا، هي العشيقة العظيمة التى ملأ وجهها بالهجاء، كتماناً لتطرف العشق الخطير ولوثة الحب الأعمى.

(منكِ الصدودُ ومنّي بالصدودِ رضى من ذا عليّ بهذا في هواكِ قضى/ بي منكِ ما لو بدا للشمسِ ما طلعت من الكآبةِ أو بالبرقِ ما ومضا/ إذا الفتى ذمّ عيشاً في شبيبتهِ فما يقولُ إذا عصرُ الشبابِ مضى/ وقد تعوّضتُ عن كُلٍّ بمشبههِ فما وجدتُ لأيامِ الصبا عوِضا/ وقد غرِضتُ من الدنيا فهل زمني معطٍ حياتي لغرِّ بعدُ ما غرضا)

لمن الكتب، كل تلك الرسائل، كل القصائد، الحكمة المختزنة في الأبيات الشعرية، الحكايات النادرة، والتنقيب، لمن كل تلك الجهود؟ إن لم تكن تقدمة لصداقة زمن الإنسان، صديق الإنسانية الذي أعطى للرجل البصير وللأعمى على السواء عصاً من أفكارٍ وكلمات تدلهما في متاهات الحياة المظلمة..

رأى ما فوق الرؤية، أبصرَ الدهر بعصب بصيرته، وصار خبيراً بالقرون، فتح الصناديق المصمتة، التي عُلقت عليها التعاويذ والتمائم، مدّ يدهُ الحساسة بين أنواع الحراب والسيوف والقنابل والمدافع والديناميت والرصاص، مد فكره الى تلك الصناديق وكشفها بفكره، وضع عليها علامة بكلمة..

(هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهودُ حارت والمجوسُ مضلله/ اثنان أهل الأرض ذو عقلٍ بلا دينٍ وآخر ديّنٌ لا عقل له..)

سحر الفنّ في ذهنه البديع يجعل الكلمة 
تخرجُ قاسية كألماسة..

( تشابهُ أنفسَ الحشرات نفسي يكونُ لهنّ بالصيفِ اغتباطُ..)
منذ اعتزل لم يخرج إلا مرتين مرة خرج من كهف بيته، ليردع الأمير عن خراب البلاد، مرة اخرى خرج الى قبره العظيم..



ذلك الخروج الأخير هو الولادة المخزونة للدهور، ها هو المعري يتجول بورد كلماته الشوكية في الدهر كل طعنة معرفة، كل وسمٍ تعليم..

( نصحتك لا تغترر يا أخيَّ بي فأنا الرجلُ الساقطُ/ ولو كنتُ ملقاً بظهر الطريق لم يلتقط مثلي اللاقطُ..)

الحكمة تُشتَفُّ من الجراح الرطبة والجافة، الأمثولة ترتفع كسحابة بيضاء من كل حياة، محاولةٌ حازمة مصممة للزوم ما لا يلزم، إشعالاً لما فوق النار بسقط الزند، وقصائد في مديح الدروع.. فأي حكمةٍ منقوشة هناك بالفضة والذهب في تلك الدرعيّات.

ديواناه سقط الزند ولزوم ما لا يلزم ورسالتاه الغفران والصاهل والشاحج كتب و
ورسائل حيث كل رسالة أعجوبة فنية، كل كتاب نوعٌ من الجواهر والدرر النفيسة، ينثرها بلا حساب، كمن ينفقُ من انجم..

أما اللزوميات فهي عصارة الحكمة والتأملات العميقة لما لا يلزم

(أما الإلهُ فأمرٌ لستَ مُدركهُ  فاحذر لجيلكَ فوق الأرض اسخاطا..)



أيها الأعمى العظيم، رائد المتاهة، أستاذ العقل العربي في وديان الدهر المجنونة، تشعل شمعة في الغد البعيد، ترفعها وتظل موقدة هناك، حتى بعد ألف سنة، موسيقاك الروحية لا تزال مسموعة، ترتفع لتدعوا إلى الطريق الذاهب نحو غدٍ لم يصل بعد.

أيها الساكن في الغد، ها نقرؤك في  الماضي، نكتب عنك في الأمس، ها أنت تنبعثُ من المستقبل، مشعلاً مصباحك المنذور لتحرير الأذهان، مرسلاً كلماتك سفيرة لفك الرهائن من قبضة سجون الدهر، من الخوف المتوارث، تعالج العيون العمياء كي تحرر نفسها من عماء الماضي وتبصر إرثها الجديد.. لتطمئن للطريق.. لتعرف ما العماء وما البصيرة..

قصيدة الأعمى نفسها عمياء، تتحسس حواف الدروب نحو القلوب، تتجاوز الحرّاس المنصبين على دروب العقول، تقفز الأسيجة الحديدية، والبوابات، نحو المساجين داخل قواعد الزمن العسكرية..
أعمى ولكنه يعرف الطريق.. حطم الأسوار القديمة.. صنع من الكلمات أجنحةً وطار.. فوق الزمن.. لا زال يطير.. انساناً خلق من مهارته حكماً صبها في كلمات شعرية، وأمثال لا في تماثيل.. صار فوق الجمادات.. لا يمكن ان يتحطم بتحطم حجارة تمثاله في عام ألفين وثلاثة عشر.. أي بعد ألف واربعين عاماً من ولادته.. بل يستطيع بذلك ان يكشف الكذبة ويفضحها من جديد:

(المينُ أهلك فوقّ الأرض ساكنها فما تصادقُ في أبنائها الشيّعُ/ لولا ضراوة أصلٍ في طباعهم كانت مساجد مقروناً بها البيَع..) البِيَع: الكنائس



سكب حكمته في اللزوميات، تلك التي لا تلزم وغادر.. تاركاً العالم وراءه، لكن أمامه في نفس الوقت.. كتب فحوى رسالته بألف صيغة..

(مهجتي ضدٌ يحاربني انا مني كيف احترسُ؟!)

 قناطير من الحكمة، أطنانٌ من المعرفة، ورمزٌ في كل بيتٍ شعري، ومشاعرُ نفيسة في أعمدةِ الكتُبِ الفقرية.
الشرايين الدقيقة ملأى بدماء الأزمنة، وعرفانٌ معتصرٌ من بطونِ الكتب، من التأمل الشديدِ الشريد في خطورة الحياة وغفلة الكائن..

منذ وفاتهِ وخروجه الأخير تحول رهين المحبسين إلى حريتين فيزيائيتين، من سجن الجسد صار له جسد من الكلمات وروح من نار الأفكار، ومن حدود الزمن صار لهُ منزلٌ خارج الزمن..

(إقرأ كلامي إذا ضمّ الثرى جسدي فإنها لكَ ممن قالها خلَفُ..)