الاثنين، 20 أغسطس 2012

الخميس، 16 أغسطس 2012

شمعة معاصرة في زنزانة حديثة*

إلى الذين هنا ولايزالون هناك.

نَعَمْ،
أشرقتْ شمسٌ في قلب الظلام، أضاءت الأرواح،
شربتِ الروحُ نوراً جديداً، مختلفاً، يضيء فقط في أقصى الأرواح.

من يأخذك إلى الأقاصي المظلمة يظنك خائفاُ، لا يعلم أنه أخيراً يجعلك وحيداً وعارياً مع نفسك.

هناك، مع ذاتك:
هل عرفتني؟ تسألك،
فتبكي وتضحك وأنت تعانق أخيراً ذاتك.

بكاؤك إجابةٌ نعَمِيّة: نَعَمْ؛
ضحكك معرفة مشرقة، بعرفان السلام؛ السلام بسبب النور الذي عثرت عليه في قلب الظلام: ذاتك.

وجدتَ نوراً وها أنت ترفع شمعة جديدة هادئة، لهيبها لا يتأثر بالهواء، لا يطفئه الماء؛ شعلةٌ سرمدية متقدة؛ كلما كانت في زمنٍ مظلم، كلما أشرقت أكثر..

أنت الآن في الأعماق الرطبة للظلام، لكنك تضيء،
أنت في الزنزانة التي في أعماق الظلمة، لكنك عثرت على الشمعة،
أنت رأيت شمعة وعرفت أنها ذاتك، رأيت شمعة وعرفت أنها روحك، شممتَ النار، وصلتكَ رائحة النور في الظلام.

وفي وحدتك:
في زنزانتك:
مع ذاتك تنشئ فكرة،
كما في لعبة الكريات الزجاجية لهيرمان هيسه.
الفكرة قصيدة مركّبة: لوغارتيمات شعرية، في خوارزميات موسيقية، بقوة معاني الروح، كلما أضفت إليها إيقاعاً أضاءت شمعتك،
تنهمك بالفكرة النقية، ينطقُ بها فمك في وجه سجّانك، تحيط به دون أن يشعر، يجلس داخلها مطمئناً، غافلاً أنك سجنته وتركت الباب الذهني موارباً في المتاهة وخرجت.
هناك الآن، في تلك الأعماق الذهنية لفكرة في فلج بحريّ، يجلس سجّانك مسجوناً، حبيسَ فكرة نيّرة، يبحث في النور وهو مُغيّبٌ عن ذاته.
تسجن سجانيك في فكرة، الفكرة ليست قضباناً، ليست زنزانة ضيقة مصمتة، بمكيفٍ حبيس، ليست جونيّة سوداء، وليست قيداً. كما ليست تعذيباً صوتياً.
مجرد شعاعٍ من شمعة مفقودة، يضيء، يظل يضيء؛
السجان يتبع الضوء الضئيل المنبعث من الثقوب الضيقة، كي يصل إلى ذاته ويخرج.
أنت الآن خارج الزنزانة، لكنك تفكر في الإنسان الذي خلّفتهُ بعدك، مسجوناً في فكرةٍ، هي عرضة للنسيان، لكن، كلما ازداد نسيانها ازدادت متانة، واتساعاً واختفاءاً؛ تخاف عليه من السجن الذي وضعته فيه، تظل تفكر أنك كنت قاسياً بفعلتك،
لكن.. تبرر نفسك، كما برر هو نفسه:
سجنتهُ كي أحرِّره.

السجان وحيدٌ الآن داخل فكرة من صنع سجين، كل الفكرة زنزانة ذهنية، وكل خيطٍ ذهني قضبان خلفها شاسع أفقي تسقط عليه الشمس بزاوية مائلة، تتعامد مع مرآة، وداخل المرآة لوحةٌ هي سؤال: من أنا؟
فكرةٌ بلا ضغائن، بلا كراهية، فكرة تجريدية، محفوفة بمشاعر وموسيقى ملونة لقصيدةٍ قوية، غنّاها بحارٌ قديمٌ في عرض المحيط، كلما ارتفع إيقاعها هدأ المحيط، وجاء نسيمٌ قوي راقصاً.
السجن حالةٌ ذهنية، تفك قيدها بفكرة هي معادلة، إذا وضعتها في  قصيدة شعرية تأخذك إلى وطن، ذلك الوطن هو نفسهُ: من أنا؟ أين أنا؟ هل عرفتني؟ انظر إلى المرآة..

خيوط:

  1. في المرآة ماءٌ إذا لمستهُ يسيل، كلما شربت منه عرفت، كلما عرفت أمكنك أن ترى ذاتك، وكلما رأيت ذاتك وصلت الحرية التي أخرجتك أول مرة.
  2. السجن رحمٌ وجودي جديد، تولد منه وحدك، تخرج منه لتشهق شهقة الولادة على هيئة ضحكة وبكاء. يتكرر الضحك والبكاء المعادل لضحك وبكاء كل المساجين.
  3. لاحقاً تتبعُ غيمةً لا تراها، أيها السجان اللطيف، تلك الغيمة هي أطراف صحراء شاسعة، على تخوم الظلام.
  4. غيمة الشمعة تعبرُ الربع الخالي والمحيط الهندي، في نفس الوقت، بهدوء وسكينة لا نظير لهما.

20 مايو 2011م

نشرت في مجلة نزوى العدد 71 يونيو 12م

الخميس، 9 أغسطس 2012


مقلوبُ الفاجعة.
1.
عندما يموتُ محمود درويش ميتتهُ الثالثة، فذلك يعني أنه لن يموتَ أقل من ورد، سيموت أكثر من حقل سماوي، ومحمود حين يموت لا يرحل وحيداً، بل يرحلُ ويتركُ الوحدة للكثرة الباقية، وحدة بلا جديد قصيدة أو جديد كلام في البُن والعنب النبيذ، أو شهقة طافية، أو مزيد من الدمع وسط الزحام، أو الحب بعدَ النهوض من النوم.

مقلوبُ فاجعته، أن يموت هوَ فنرحلُ نحن إلى الموت، لكن لسنا وحيدين جداً لأن الحياة في زمن محمود تعني أن نعود من زيارته محملين بسلال القصائد عن الحب، والزهر والبرتقال والنخلتين، وظل الفرَاش، لذلك حين يموت نعرف أن علينا أن نحاول أن لا نموت معه، كأنا قصائد.

كتبَ محمود من فجائعنا حبهُ للحياة، كتبَ شعرنا الداخلي، بقلب يرى مهمته أن يترجمَ عجم القلوب إلى فصيح الكلام.

أواخر ما عاش  صعد مختطَفاً من الأرواح، كي يتلقى الوحي على تلال قلبه، معيداً تكوين سفر الخروج الجديد، ليكتب عن مزمار داود الإنشاد الناقص، إنشاد الالتباس المُبكي، واقرأ، في اللحظة التي ولدَ فيها محمود درويش نفسهُ من جديد، ليكتبَ ما يبقى من جداريته.

ومحمود درويش شاعرُ مراثي مجيد له سطورٌ محينَ الدموع بالإنشادِ، المراثي التي كتبها محمود درويش تصلحُ للإستعادة الآن للخروج من (هواةِ الرثاء) إلى من يقال لهم تصبحون على وطن، وطن يُنقشُ ويُكتب ويستعاد، بالشعر.

نفس مراثي محمود لا تصلحُ لرثائه، لأنهُ ذئب أوقف العواء وحولهُ إلى أغنية ذئاب تنظر في عين القمر وتغيب هناكَ.

نهاية القرن نهض محمود درويش من بستانه الإعتيادي إلى البستان الوجودي الجديد، إلى السؤال المحير المقلق، إلى ذهابه الشعري بإطلاق نار الأسئلة واستعادة جرح رصاص الإجابة، الرصاص الذي دائما ما يطيش، الرصاص الطائش والسيوف الطائشة، والألسنة الطائشة، لكنها تخطئ دوماً القلوب الطائشة،
القلوب الباحثة عن ذاتها بشعرٍ شديد الطيش، شديد الولع، شديد العصمة، طيش يدٍ ترتفع أمام محمود درويش إلى أعلى من مستوى الفم،  لتلقي هي الشعرَ أيضاً، كأن الأيادي أفواه.

يد تكتب الشعر وتلقيه وسط الجموع، اليد الشاعرة. تستحق الإشادة،
هذا ويا قلب محمود درويش نقول لك بشأن القلوب ـ رغم آلامنا ـ : أنت قلب شاعرٍ وليست تلام قلوبهم إذا أخطأت وزنها، لأن وزن القلوب أول الوزن وآخر الوزن.
2.
يتعرى الكلام ويدخلُ في بحيرات القلوب، دون أن يكترث، لما يعتري القلبَ من ممكنات الوفاة السريعة، الوفاة التي تستحيل على الشعر، على الصوت واللغة والصورة الباقية في رسوم الكتابة.

هو القلب ذاتُ القلب، ذات الدماء، والقلب قلبٌ بين سهام الحياة، وسمام الممات، هو القلب.. بين الوجود وطعم الفجيعة، ما مات مات من القلب، وما هو آتٍ من القلب هذا الممات، وبينهما أن تعيش القلوب.

ومن يذهبون وحيدين جداً إلى المقبرة، ولا يرجعون مع الراجعين، يتركون أحبابهم في عهدة الماء، ماء الدموع، وفي عهدة الدم والقلب، قلب الدموع وقلب الدماء، والدمع ليسَ عزاء، ولكنهُ كالعزاء، لأن العزاء  هو الموت نفسه، حين يسير الجميع إلى المقبرة ولا يرجعون فذاك العزاء الوحيد.

ممالك شعرِ الكلام الكتابة، اخرجي من خيام العزاء، وتعالي، لأن العزاء عزاءُ الكتب، كتب تتعزى بفقد، وشعر عن الفقد، في الفقد لكن بقاءٌ وفقد، فقدٌ نقيدهُ بالكتابة كي نتحرر منه، لكن سنُفقد نحن وتبقى الكتابة، في القلب.
وفي القلب قيد كأن السلاسل مربوطة في القمر.

يموتون أي يرحلون، بمستشفيات بعيدة، تسافر أرواحهم من هناك لتعانق ما كتبته، وتبسم للأصدقاء الذين لم يضحكوا كعادتهم للمزاح الأخيرة، الأصدقاء الذين لم يدركوا بأن المزاح الأخير الثقيل ضرورة قلب.
الجميلون كمحمود حين يموتون إنما يصعدون إلى رب هذي الكتب.

يقولون أن كبار الشجر في فلسطين تقرأ أشعاره لصغار الشجر، ويقرأها الجسرُ للنهر والبحرُ للقادمين الجدد، وللعائدين..

لا تباكوا سيبكي الشجر، ستبكيه برتقالته، ولا تبكوا سيبكي الحصان الوحيد، ولا تذهبوا للعزاء الخبر، اذهبوا للقصائد، وأعيدوا قراءة مزهريته وجداريته، ستشق زيتونةٌ جيبها وتنوح، وستنشر أشجارهُ شَعرها وتهيل التراب، على رأسها.
فالذي ماتَ، ماتَ جداً، كأن لم يمت، شهيداً بناسفة القلب، بفدائيةٍ للحياة ..الذهب.

دعوا النخل يبكيه، واللوز والشعر والحب، على قدر هذا الجمال المصاب، الحنين البكاء، القوافي الشجر، الأغاني التي في الأغاني لدرويش، ولمحمود تلك الفراشة: (هكذا دائماً هكذا.. هكذا
من سماء إلى أختها يعبرُ الحالمون).

مجردُ أن يتعرى الكلام ليدلفَ ظِل البطينين وينام هناك أخيراً برسم السفر، يعني بأن الكلام يرى ما يريد، ويغمض عينيه حين يريد.
هذي القصائد أوصلن عاشقهن، إلى قلب قلبه، فأفنى الممات وأفنى العزاء وأفنى الرثاء، والعاشقات اقتصرن الحداد عليهن. ولم يبقَ غير القراءة، قلبُ عزاء.

ليس الخلود بسهلٍ على الراحلين المقيمين، وهذا العزاء الكبير الذي في الصحف، في المقاهي، يعزي خلود الرجل في الرجل، قلب وقلب.
يا قلبَ محمود أحسنت، يجوز لقلبك ما لا يجوز لقلب سواك، فاجعة القلب، وقلبُ الفواجع حتى تصير ازدهارَ حياة، أحسنت، لا لم تخنه، أنت بالذات، لا ..لم تخنه.


نشرت في جريدة الوطن العمانية أغسطس 2008م