الاثنين، 12 ديسمبر 2011

زهرة (لا تنسني) روبرت الطائر هانز ماغنوس انتسنسبرغر

 
زهرة (لا تنسني)
روبرت الطائر
هانز ماغنوس انتسنسبرغر

كل شاعر حقيقي وصادق يعني إمكانيات جديدة للغة، منطقة جديدة يفتتحها شاعر بقلبه، بدمه. إهاب جديد لنفس الكلمات، ومعاني جديدة. بالنسبة للقارئ من المهم أن يعثر على شيء لا يعرفه لكنه يضع إمكانية العثور على ذلك: الضائع الغائب السر، في كتاب، في قصيدة، مجموعة شعرية لشاعر. والجميل أن تصدق نبوءة القارئ، والأجمل أنها تثير الشغف للتنبؤ واتباع النبوءة المعرفية.

سرٌ ما في هذا الكون يجعلنا نقرأ ونكتشف، سرٌ ما في هذه الحياة يجعلنا نشتهي أن نعرف أكثر قبل أن نغمض إغماضتنا الأخيرة. متعة الأكتشاف الرائعة التي تثير فضولنا المستمر لتجربة تلك المتعة كل مرة. ما أجمل الحياة، وما أجمل قراءتها:
(حتى يصل هذا الكتاب إلى يديك/ ربما سيكون مظلماً جداً لتقرأه/ لا نعرف عما إذا كانت الفراشات ستدبر أمورها بدوننا/ هذا ما يفترض، إرم الكتاب بعيداً/ واقرأ) ص35 بيبلوغرافيا
ارم الكتاب بعيداً واقرأ، لأن تعلم القراءة لا يعني معرفة شكل الحروف وطريقة نطق الكلمات ومعانيها، فتلك هي القاعدة الأساسية لكن فيما بعد يتحول القارئ الحقيقي من قراءة الكلمات المكتوبة إلى التعرف على شكل حروف الأرض، شكل حروف الأشجار وحروف المياه، وحروف الأقدار، والأحداث، حروف الإنسان، واللغات المبثوثة في الأرض. تأتي لحظة ما على القارئ فيها أن يترك الكتاب، أو يرميه بعيداً عن عينيه ويقرأ ما حوله. إقرأ أيها القارئ. هل تعلمنا القراءة حقاً؟ هل عرفنا الكتاب الكبير؟ كتاب الطلاسم التي نعيشها من حولنا. القارئ هو الأقدر حتماً على قراءة ما يحدث حوله، هو من لديه المقدرة على تركيب الكلمات من حروف الصخرة، والشجرة، والقطرة، والليل، والأنفاس.
عندها يكون ضرورياً جداً لمثل هذا القارئ أن يقرأ قصيدة لعدم قراءة القصائد:
(من ذا الذي ينادي بفمٍ فالت/ من حجرة الضباب؟ من ذا الذي يسبح/ حول عنقه عجلة مطاط، عبرة حفرة تغلي/ من بيرة وعل ودم؟/ ها هو ذا/ انقش هذا في التراب من أجله/ هو الذي لا يفك طلاسمه./ من هو ذا المدفون تحت الجرائد/ والقاذورات؟ من هو هذا الذي في بوله يورانيوم؟/ من هو هذا الذي خاطو عليه/ بلعاب المؤسسات اللزج/ من هو هذا الذي صبوا عليه الرصاص؟/ انظر،/ ها هو ذا، في عنقه سلك هوائي،/ هو الأكول المعقود اللسان بدماغه الأجرب./ أي آذان غامضة هي هذه،/ متصببة سكراً ناعماً جافاً، تلتف بفاتورة الأسعار/ وتتكوم في قسم السجلات/ في رزمٍ صماء متكدرة؟/ في الآذان المائلة/ للخونة المشدوهين/ أتحدث بارداً كالليل وبإلحاح/ والعواء الذي يبتلع/ كلماتي؟ تلك النسور الرسمية/ المدهونة تعزف على الأرغن/ عبر السماء المذهولة/ لتحمينا./
من كبدي/ ومن كبدك تأكل/ أيها القارئ الذي لا يقرأ.) ص45 قصيدة لعدم قراءة القصائد.

هكذا إذن تكتشف نسوراً رسمية تعزف على الأرغن. خفف على كبدك الألم أيها القارئ. هل تشعر بالألم؟ إنه بسببها تلك التي تأكل من كبدك، ومن كبدي، ومن كبد هانز ماغنوس انتسنسبرغر الشاعر الألماني المولود في 1929، ونشرت له مجموعة قصائد مختارة بالعربية بترجمة الشاعر فاضل العزاوي والشاعر خالد المعالي عن دار الجمل 2003م.
رغم ذلك فالنسور الرسمية كانت تأكل كبده هو الآخر، أيها القارئ ذا الكبد المأكولة. اقرأ قصيدة لعدم قراءة القصائد.
فيما بعد يتعرف القارئ على أن المهم هو الكلمات لا الكاتب، وأن الكاتب يجب أن يقدم أوراق اعتماده الحقيقية بالكلمات في كل مرة يكتب فيها، لأنها هي الكلمات من تقودنا لتعلم قراءة حروف الحياة، هي السر الأعمق كي نتعرف على عالم القراءة خارج الكتب، خارج القصيدة، وداخل الحياة، داخل الشعر.
هكذا نتقلب في الحياة كقراء في كتاب، ونحن نقرأ كتاباً، والكتاب في مركز عيوننا، لكنه يظهر أمامنا محاطاً بالعالم، وفي نفس الوقت جزءاً من العالم نفسه. كما أننا نحن جزء من نفس العالم. نقرأ بعيوننا، أو نسمع، لكن الحيز المحترم الذي يشغله الكتاب هو الحيز المؤثر في أذهاننا. نقرأ ونسمع الأصوات خارجنا، على البحر أو في البستان تحت الظل الحياة مستمرة من حولنا. نحن نقرأ، غرقى في قصيدة، كل قصيدة تصدمنا فنرفع أعيننا لنرى العالم من حولنا. نطل من نافذة الغرفة، العالم كما هو في مكانه. نتأكد من أن العالم لا زال في مكانه، لكننا ننسى أن نتأكد من أنفسنا، نحن الذين لم نعد في مكاننا.

نظير مشع: (.... قطعان من حملة جائزة نوبل/ توشك اليوم في الأورال وفي أريزونا/ على تحسين درجة التأثير/ حفاظاً على كعاب السيدات./ حذرٌ يسود المختبرات/ قطرة ندى تنسل من ثقب الباب،/ نزيز، رطب وإنساني،/ مضمون العمل، ومشحّمٌ ضد القنابل والموت،/ عرق أكثر سخونة ورقة./ زمن التجارب ولى/ من مسام العالم يسيل منذ عهد طويل/ فيضان جاف، ونحن نغرق،/ واقفين بكل نظام أمام شبابيك بيع التذاكر/ على ركبنا داخل ساعات بطيور معلنة للوقت، داخل اليود.)
يصر الشاعر على توسيع مملكة القصيدة، كي تستوعب الناس اليوم، كي يمكنها حقاً أن تصف شيئاً ما عن هذا الواقع. أن تضيء بسحرها الخاص على الفعل بالكلمة. ليس بالضرورة الحديث عن النص، لأن كثرة الحديث أيضاً تسبب التخمة. القصيدة وحدها كافية، يمكن استعادتها لمرات والغرق في صورها، الشعور بشعرها، لمس منطقتها المضللة، واستكناهها. عالم آخر يمكن رؤيته بشكل أفضل من الثقوب والمساحات الفارغة بين الحروف والكلمات.

أنا أكتب هنا ليس من أجل تقديم الشاعر وكلماته بشكل مباشر، أنا أكتب وأرافق هذا الشعر، كما لو في صندوق فيه أشياء مختلفة، لكنها متجاورة بسلام، قد تتشابه من بعيد، لكنها دائماً مختلفة. لنجرب هذه الطريقة فهي نافعة، ولها فائدة حقيقية يمكن الشعور بها بعد انتهاء القراءة والكتابة. أنا أكتب وتنطلي الحيلة حتى علي لأنني أكتب ولكنني أقرأ في نفس الوقت، وعلى هذه المساحة هناك قراءة/ كتابة في نفس اللحظة، بكل ما تعنيه هاتين الكلمتين من تفكير ومن جهد ذهني، مختلف/متشابه، أعمى/ مبصر.
بعماء: (ليكون المرء منتصرا/ عليه أن يكون مبصراً/ لكن العور/ شمروا عن أردانهم/ استولوا على السلطة/ ونصبوا الأعمى ملكاً)
لماذا تتشابه الأحداث بشكل مريب، ولماذا نتحدث عن مكان ونجد حديثنا ينطبق على أماكن أخرى، ربما لأسباب خارجه عن القانون وعن النظرية المعروفة والمتبعة عادة:
(عند الحدود المغلقة بالمزلاج يقف/ شرطة يلعبون لعبة البقرة العمياء/ يمسكون أحياناً بطبيب عيون/ مطلوب من قبل العدالة/ لقيامه بنشاطات مهددة لأمن الدولة./ كل السادة القادة/ يضعون قطعة شريط سوداء صغيرة/ فوق عينهم اليمنى)
قطعة شريط سوداء صغيرة تذكرني بموشي دايان، ألم يجد فكرة أفضل ليغطي عينه المشوهة، نظارة سوداء مثلاً؟
(وفي مكتب الحاجات المفقودة/ ثمة عدسات مكبرة ونظارات لا صاحب لها تتعفن/ سلمتها كلاب العميان/ رواد فضاء طموحون يضعون لأنفسهم عيوناً زجاجية/ آباء بعيدو النظر يلقون على أطفالهم مبكراً/ دروساً في فن الحوَل المتقدم)
من المهم أن نأخذ نفساً هنا،
(العدو يهرّب سائل البوريك/ لمعالجة غشاء العين الرابط لجواسيسه/
لكن المواطنين المستقيمين/ مع مراعاة كل العلاقات/ لا يصدقون أعينهم/ ولذلك ينثرون الفلفل والملح في وجوههم/ يتلمسون باكين كل المعالم التي تستحق النظر/ ويتعلمون أبجدية العميان.
يقال أن الملك قد أعلن قبل وقت قصير/ أنه ينظر بكل ثقة إلى المستقبل)ص43 بعماء.
لا غرابة أبداً في أنه هو نفس العالم، لأنه هو نفس الإنسان، نفس الذهن، نفس الثقوب، والعيوب. من الجيد للمرء أحياناً أن يلتفت لعاداته بعد زمن وأن يراجعها جيداً.

العادة
"العادة تجمل الأخطاء" كريستيان فورشتيغوت غيلرت
1.
لا يستهوي الناس العاديين عادة
أي شيء عند الناس العاديين.
وبالعكس.
فالناس العاديون يجدون أنه من غير العادي
أن يجدهم المرء عاديين.
وبذا لن يعودوا أناسا عاديين.
وبالعكس.
2.
يعتاد المرء
على أن يعتاد كل شيء.
هذا ما يسمى عادة
عملية التعلم.
3.
نشعر بالألم
حين يختفي الألم المعتاد,
لكم تمل العاطفة المستثارة
استثارتها!
فالإنسان البسيط يجد أنه من الصعب
أن يكون إنساناً بسطاً،
فيما يعد الشخص المعقد
مصاعبه
مثلما تعد الأخت المصليّة حبات المسبحة.
هؤلاء المبتدئون الأبديون، إنهم في كل مكان
هؤلاء الذين استنفذوا أنفسهم من زمان.
الكراهية أيضا عادة محببة.
4.
لقد اعتدنا
الذي لم يوجد قط.
فالذي لم يوجد قط
هو عرف معتاد.
حيوان عادي
يلتقي عند الركن المألوف
مجرماً معتاداً على الجريمة.
واقعة لم يسمع بمثلها من قبل.
الخراء العادي.
الكتاب الكلاسيكيون اعتادوا
أن يحولوا ذلك إلى روايات قصيرة.
5.
برفق تستقر عادة السلطة
فوق سلطة العادة.

دفاع الذئاب ضد الحملان
أكان على الصقر أن يفترس زهرة "لا تنسني"؟
ماذا تتوقعون من ابن آوى؟
أن يغير جلده؟ ومن الذئب
أن يقلع أسنانه بنفسه؟
ما الذي لا يعجبكم في المتعافسين السياسيين وفي الباباوات؟
ما الذي تبحلقون فيه هكذا بغباء وأنتم بملابسكم الداخلية
على الشاشة الكاذبة؟
من سيخيط للجنرال
شريط الدم على سرواله؟ من
سيفك الديك المخصي أمام المرابي؟
من سيعلق فخوراً صليب التنك
أمام سرته المقرقرة؟ من
سيأخذ البقشيش، قطعة الفضة،
قرش الصمت؟ ثمة
مسروقات كثيرة واللصوص قليلون؛ من
سيصفق لهم إذن، من سيقلدهم الأوسمة، من
سيلهث وراء الأكذوبة؟
انظروا في المرآة: جبناء
هيابين من مشقة الحقيقة
نافرين من التعلم،
ترمون بالفكر للذئاب،
حلقة الأنف هي أغلى حليكم،
ما من خداع أكثر غباء، ما من عزاء
أكثر رخصا، كل ابتزاز هو تساهل كبير بالنسبة لكم.
أيها الحملان، الغربان نفسها
مقارنة بكم أخوة:
كل منكم يفقأ عين الآخر.
بين الذئاب
يسود الإخاء.
يسيرون قطعاناً.
ليتبارك اللصوص:
مدعوين للإغتصاب
ارموا بأنفسكم فوق سرير الطاعة
العفن. مستعطفين
ما زلتم تكذبون. أنتم تريدون
أن تتمزقوا. لن تغيركم
الدنيا نفسها.

ترجمة القصائد فاضل عزاوي
قصائد مختارة هانز ماغنوس انتسنسبرغر
روبرت الطائر منشورات الجمل 2003

السبت، 12 نوفمبر 2011

التيه الهندي أو تثبيت الدوار داخل ينبوع الصور أوكتافيو باث

التيه الهندي أو تثبيت الدوار داخل ينبوع الصور

شجرة أوكتافيو باث

غلاف كنتُ شجرة وتكلمت بستان حروف
(جئت إلى هنا/ كما أكتب هذه السطور/ بلا فكرة ثابتة)
إذا كنت ظمآناً فأنت ظمآنٌ لروح الماء، حين تمسك كتاباً بيديك تتغير الأمكنة تحت قدميك والفضاءات؛ أكنت أمسك الكتاب بيدي أمس، أم أن الكتاب كان يمسك بيدي اليوم؟ عيني تقرأ أم تستغرب؟ لا أعرف، أذكر لكنني: لا أعرف؛ أكان فتح العيون قراءة أم تأملاً، أذكر لكنني: أحاول الكتابة كي أداوي مرض القراءة هذا.
لماذا يتكئ أوكتافيو باث على الشرفة ولا يستمع للنصيحة التي يحفظها؟:
(متكئاً على الشرفة/ أرى/ (لا تتكئ/ إذا كنت وحيداً، على الدرابزين/ يقول الشاعر الصيني)/ إذا كانت هذه البداية بداية فهي لا تبدأ معي/ معها أبدأ، فيها أدوم/ متكئاً على الشرفة)
البستان والينبوع
هذا ليس أوكتافيو باث الشاعر المكسيكي الحائز في نهاية حياته على نوبل الأدب 1990، بل هذا ينبوع صور كان شجرة، مرة كما في القصيدة التي العنوان منها: (كنت شجرة وتكلمت بستان حروف) ومرة أخرى شجرة يسير حفيفها ينبوع صور:  (كنت شجرة وتكلمت/ مغطى بأوراق وعيون/ كنت الحفيف سائراً/ ينبوع صور)، ينبوع صور يصدر من صوت: الحفيف، كلام الشجر.
في القصيدة الرائعة حكاية بستانين والتي مطلعها: (إن بيتاً أو بستاناَ/ ليسا مكانين/ إنهما يدوران، يذهبان ويؤوبان/ تجليهما:/ يفتح في الفضاء فضاءً آخر، زمناً آخر في الزمن)، في هذه القصيدة نعرف أن أوكتافيو باث كان شجرة لأن جده البستان: (كنت طفلاً/ وكان البستان جدي/ أتسلق ركبتيه النباتيتين)، وحين يكون المرء شجرة، وسليل بستان، فإنه يتعلم علوم الأشجار: (علمتني أشجار الصنوبر كيف أتكلم وحدي/ وفي هذا البستان تعلمت كيف أقول لنفسي وداعاً/ ثم اختفت البساتين) ويتعلم التصالح: (تعلمت في إخاء الأشجار،/ كيف أتصالح،/ ليس مع ذاتي:/ مع ما يرفعني، يسندني، ويتركني أسقط).
بصفته النباتية الشعرية تلك يعرفنا أوكتافيو باث على أفعال النباتات، ففي قصيدة اللوتس الذهبية نعثر على سر اللوتس: (في منتصف الليل/ تسكب/ في اذن عشاقها،/ ثلاث قطرات من نور بارد) ، ونتعرف على أنواع من الأشجار وحركاتها: (شجرة تغلي غرباناً)، (تمشي أشجار الحور السوداء/ دون أن تغير مكانها)، (الشجرة ذات الجذور الهوائية التي تشرب ليلاً من الشمس/ الشجرة الجسدية   الشجرة الفانية)
التيه الهندي المزدوج
أنا خلف أوكتافيو باث ما دام هو تائها في الهند، يكتب شعراً عن الهند كما في كتاب الخلق: (كان القمر من ماء،/ والشموس من ماء،/ والسماء تحل ظفائرها/ فإذا هي أنهار تتدفق/ وتغمر القرى،/ فيختلط الموت بالحياة مزيج وحل وشمس،/ فصل شبق ووباء/ فصل شعاع على شجرة الصندل/ كواكب تناسلية مقتلعة/ تتعفن/ ثم تبعث في فرجك./ أنت أيتها الهند الام./ الهند الإبنة)
ودلهي هي (دل هي) حيث دل تعني القلب وهي مدينة القلب (دلهي/ برجان مزروعان في السهل/ مقطعان لفظيان أرددهما هامساً/ متكئاً على الشرفة)، (دلهي وحجارتها الحمراء/ نهرها العكر/ قبابها البيضاء/ قرونها الممزقة،/ تتغير: هندسات بلا ثقل، تبلورات ذهنية) والتيه تيهٌ أصيل: (كنت هناك/ لست أدري أين/ أنا هنا/ حيث لا أدري). سيستمر ذلك كشفافية يحملها أوكتافيو باث في قلبه على امتداد القصائد المجموعة في هذا الكتاب أو خارجه، حتى بين الأشجار:(حيث لا أحد): (ما من روح/ بين الأشجار/ وأنا لا أدري إلى أين ذهبت)
الشفافية تخرج من كونها بصرية لتكون موسيقية وصوتية، تتثبت خارج الورقة الشفافة في الشعور الشفيف؛ فأوكتافيو باث يذكر هيئة ضياعه في نص كونشيرتو في الحديقة: (أمشي ضائعاً في مركز ذاتي) ص46.
والتيه الهندي -وهو نوع خاصٌ من التيه- متاحٌ بوضوح في شعرٍ يتحدر من ضفة البحر الأخرى بهنديته اللاتينية إلى ضفة الهند، حتى نشعر بتلك الصفة والخصوصية ونحن نقرأ أو نسمع شفافيات القصائد: (أجهل خاتمة ما أكتب/ أبحث بين السطور/ صورتي هي المصباح/ المضاء/ في منتصف الليل).
ينبوع الصور الصوتية باذخ: (رحم المعبد/ موسيقى شموس متشابكة) الشموس المتشابكة! من أين يحلب أوكتافيو باث (حجر الشمس) بهذه الطريقة :(ما بين الأنوار المتلاشية/ لا ضياع للصور/ بل تجسيد للأسماء/ عالم نبدعه لنا جميعاً/ شعب علامات)، هو هكذا لأن الحقيقة هكذا، ولا ضياع للصور ما دامت تخرج من ينبوع
 لذلك يأتي سؤال الينبوع حارقاً في حيرته:
(أصدق النجوم أم أصدق البشر؟).
الشعر في الموسيقى والشعر، وأنا
أنا أقرأ وأستمع إلى dream John Cage، أوكتافيو باث كان يكتب ويسمع، يكتب قصائد خاصة مثل (قراءة جون كيج) الموسيقار الأمريكي، حيث نتعرف على الموسيقى وهي تسيل في الشعر، فالشعر يدمجكلمات جون كيج في نسغ القصيدة، حيث جون كيج ياباني: (يوجد إنسان/ هذا الإنسان هو جون كيج/ حدد بأنه (لا وجود لشيء في الوسط)/ قال كلمة ليست/ صمتاً: سوف تسمعها بعد سنة بدءاً من يوم الاثنين/ الظهيرة فجأة: غير مرئية) وذلك ما حدث، إذ أن ما يقتبسه أوكتافيو باث من كلمات جون كيج هو قراءة لجون كيج، قراءة الموسيقيّ والإنسان في جون كيج عبر وضع كلماته نفسها بين المرايا الشعرية، في المكان الذي يكون فيه بروز الكلمات متضاعفاً فتتحقق (قراءة) جون كيج.
من يكون في النهاية أوكتافيوباث إن لم يكن هندياً، إنساناً، شاعراً، وشجرة (أنا ماء أنا ليل/ أنا غابة تتقدم/ أنا لسان/ أنا جسد/ أنا عظمٌ شمسي) يحدث هذا لمن هو مغتبط بوجوده كعاشق: (أنا جانحٌ عن الزمن/ مأخوذ ومولع/ عاشق لهذا العالم/ أمشي تائهاً في ذاتي/ متلمساً/ أطلب المثابرة والتجرد)
شكراً لمحمد علي اليوسفي على ترجمته لأوكتافيوباث، لمثابرته المستمرة في تقديم شاعر كبير بحجم باث نحتاجه كثيراً في لغتنا العربية، نحتاج شاعراً يثبت شيئاً مهما كـ:
 (أحدثك دائماً تحدثني دائما/ أتقدم في الظلام وأزرع علامات)، أوكتافيو باث الذي يختم قصيدته هكذا: (في هذا الهنا الذي لا مكان له/ كلام!/ أنتهي في بدايته/ أنتهي فيما أقول/ أنتهي/ وجوداً/ ظل اسمٍ آنيّ/ أبداً لن أعرف نهايتي)
..حين أكون ظامئاً يدلني الشعر على روح الماء.

قصيدةالنثر في حانة الكلب

قصيدة النثر في حانة الكلب



"وجدتُ نفسي نائماً في حانة السلحفاة والأرنب في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد"، حانة الكلب حانة صغيرة على طريق إل كامينو ريال El Camino Real، والتي يترجمها سركون بالطريق الملوكية وهي الطريق التي كان يسلكها كهنة المكسيك إلى الأديرة المقدسة في كاليفورنيا، حيث لفتت انتباه سركون بولص يافطة غريبة وهو يقود سيارته، "استرعت انتباهي في الحال وتوقفتُ عندها كأنني وجدت سرّ أمريكا أخيراً: "حانة الكلب".


حانة الكلب على طريق الكهنة الملكي إلى كاليفورنيا، البلّة التي زادت طين المعنى كما يصفها سركون، لأن الملوك هنا هم ملوك الروح؛ يحول سركون بولص حانة الكلب إلى اسم ليس للحانة وحدها ولا القصيدة التي يصدّرها سركون بولص باقتباس من جلال الدين الرومي "إذا كنت نائماً في مركب نوح وأنت سكران ما همكَ لو جاء الطوفان"، بل تصير حانة الكلب اسما وعنوانا لحالة ومرحلة طويلة يتقاطع فيها الذاتي والكوني، الألم والسخرية والألم والسخرية؛ سيضم سركون بولص قصيدة حانة الكلب المكتوبة في 1975 إلى ديوانه إذا كنت نائماً في مركب نوح والمنشور عام 1998، لكن لماذا لم تكن حانة الكلب من قصائد ديوان الوصول إلى مدينة أين؟ المنشور في أثينا 1985؟، ما نحن متأكدون منهُ هو أن حانة الكلب لو نشرت في أين أو في الحياة قرب الأكروبول أو أي ديوان آخر غير مركب نوح فإن ديوان مركب نوح لن يكون اسمهُ: إذا كنت نائماً في مركب نوح.
حانة الكلب كما سيشرح لنا سركون في نهاية الديوان قصيدة مفصلية في حياة سركون بولص الإبداعية، لأن بعدَ هذه القصيدة ليس ما قبلها أبداً، فبعدَ حانة الكلب سيأتي ديوان الوصول إلى مدينة أين، فمرحلة أين و نوح، "مرحلة واحدة تقريباً بدت لي فيها جميع منافذ الكتابة بالعربية، لأول وهلة، مسدودة في وجه التجربة الجديدة التي كانت تكتسحني آنذاك" من الواضح أن التجربة الجديدة التي يقصدها سركون هي: قصيدة النثر، والمنافذ العربية المسدودة أدت لتوقفه عن الكتابة منقطعاً عن التواصل مع "عالم النشر أو التركيبة الثقافية العربية بأكملها التي كنت أراها، آنذاك، بعين أودن الساخرة عندما قال في قصيدة له: "يتكلمون عن فن الملاحة، بينما تغرق السفن"".

يعود سركون للنشر في منافذ السفن الغارقة إثر رسالة يتلقاها من أدونيس في عام 1972م، ويهدي سركون ديوان مركب نوح إلى يوسف الخال الأب في ذكراه الخالدة وإلى أدونيس سيد الهجرة في أقاليم النهار والليل، يمكننا أن نضيف إلى الأسباب المعروفة عن الإهداء إلى يوسف الخال هي الملاحظة التي أبداها يوسف الخال لسركون حول محاولة سركون الكتابة الصوفية "شو بدك بهيدي القصة؟!" قال يوسف، لكن سركون يمعن في القصة دون أن يخشى من اختلاط صوته بالأصوات فيضع اسم الديوان من جملة لأحد أشهر أئمة الصوفية خارجاً بالصوفية من تصنيفها الكلاسيكي إلى تصنيف شعري تحسبُ فيه للصوفية وثبتها الشعرية، وهو ما يدركه سركون ويضع على نبضه إبهامه.




حانة الكلب لا قراءة واحدة تكفي ولا أي رقم مقترح من القراءات، إنها من تلك القصائد؛ لأن القارئ سيكتشف أن النائم في مركب نوح ليس الرومي ولا سركون بولص بل هو أنت : "وجدتُ نفسي نائماً في الجانب المظلم من العالم أنقب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ يربطني بك، أنت، دائماً وحتى أنني أتردد في أن أسميك لأنك، لستَ امرأةً أو الأرض أو الثورة: شجرةً فقيراً حذاءً في الطوفان لا أسمي أحداً بالضبط لكنني أريدكَ أن تشعر بخطورة القضية!"، أنت موجود في حانة الكلب، وأنت شجرة أي أخضر، فقيراً أي تشعرُ بالألم، حذاءً في الطوفان أي لا حولَ لك، كي تشعر بخطورة القضية، هل تشعرُ بخطورة القضية؟، قد نتساءل أي قضية هذه التي علينا أن نشعر بها؟ إنها القضية التي يفتتح بها سركون قصيدة حانة الكلب " لا أخفيكم أنني أنا أيضاً أفكر أحياناً بماهية الشعر بخطورة القضية" (ماهية الشعر) لكن لن نستعجل لأنهُ ليس الشعر المكتوب، ولا المقروء، بل الشعر العام شعر الحياة، ففي بداية القصيدة كان سركون بولص يفكر في: "فقر العصافير الاسطوري" العصافير المغنية المغردة، مغنو الوجود الفقراء، فقر المغردين والمغردات على الأيك والغصون، العصافير الفقيرة التي تجمعُ الحَبّ من على الطرقات، والمزابل، فقر العصافير التي يتبجح البشر الأغنياء أمامها برمي الحب لتلتقطه، سواءً في الهايد بارك أو في الحرم المكي، فقر العصافير الذي نعرفه، الفقر القديم، الأسطوري.

ويجد سركون نفسهُ نائماً في أغلب الأحيان "وفي أغلب الأحيان وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجلٍ نائم تحتَ جبل وأركله لأوقظهُ برفق أولاً ثم بتهور وصراخ حتى يستيقظ، ويوقظني" النوم تحتَ الجبل، نومٌ خطِر متهور، كيف ننام تحت الجبل وكل حركة في أعلى الجبل تعني سقوط حصاة، لكن من هذا الرجل النائم تحتَ الجبل في موقع الخطر؟ من هو الرجل الذي إذا استيقظ يمكنهُ أن يوقظني؟ هناك واحدٌ فقط إذا استيقظ يمكنه إيقاظي هو أنا نفسي!، سركون بولص النائم يحاولُ إيقاظ نفسه.

النوم أم اليقظة؟ وهل من فرقٍ حقاً "وأحياناً يكونُ الفرق الوحيد بين الحياة والنوم هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد، بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظ، بواسطة حذاء حتى إذا لم يكن هناكَ جبل حتى إذا لم يكن هناك!" لا هناكَ ولا الجبل، فـ(الفرق الوحيد) ليس بين الحياة والموت، ولا بين النوم والموت، بل بين الحياة والنوم، علاقة زجاجية بين مصادفة/ قصد، بين إيقاظ /استيقاظ، حياة/ نوم، لنستعيد هنا أن الذي في مركب نوح سكران نائم، إنها الحياة النوم، اليقظة النوم والنوم الحياة، والحياة السكرة.

في فجر حانة الكلب، في بداية النهار حيث لم تتضح الرؤية بعد ولم تشرق الشمس يقع المحذور "ذات فجرٍ يقعُ المحذور ينتقلُ فيه نبعُ القرية من وراء السياج إلى فم رجلٍ نائم يرصعهُ الظمأ" النبع ينتقل إلى فم الرجل النائم "الحياة النوم" الظامئ جداً، ظمأهُ صحراء تهيلها فرقة أعداء مدربة في قصبته الهوائية طوال الليل، ظمأ هائل لأنه ظمأ صحراوي: ظمأ أساسي؛ ويقعُ المحذور فينتقلُ نبع القرية إلى فمهِ الظامئ بقصبته الصحراوية، نبعُ القرية هنا والفم أي الكلام، التغريد، القصائد، الشعر واللغة، النبعُ يصيرُ قصيدةً في فم الرجل النائم الظامئ تحتَ الجبل.

يقع المحذور: "يحظرُ التجول ويُفشى السر تحتَ شبكة الأحكام العرفية غيمةً واطئة" السر يُفشى غيمة واطئة تحتَ شبكة الأحكام العرفية، المحذور في انتقال النبع وحظر التجول، والسر شبكة وهمس غيمة أي لغة وكلام "تركبُ أبخرةَ النهر" النهر الماء، والكلام الماء، والنبعُ الماء، وهمس الغيمة والظمأ الشديد، "أو ربما كنتُ أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة"؛ التورية ربما هي المسؤولة لكن عن ماذا؟، هل عن المخلوق الأخضر!، لأن التورية "ترفعُ بالسطل مخلوقاً أخضرَ كان ينامُ بانتظاري في بئر السبعينات ومنذ الطفولة" البئر الذي ترفعُ منهُ التورية المخلوق الأخضرَ النائمَ منذ الطفولة البعيدة، لأن التورية لا تعني فقط اللعب بالكلمات، وهنا قرب البئر تعني التورية اللعبَ بالماء، "أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح" ضد الجاذبية، ولماذا لا نؤمن ببساط الريح إيماناً أعمى؟ ما دمنا نعرف أن "القصائد لا تحتاجُ إلى مجذاف لتعبرَ بنا جميعاً إلى الضفة الثانية وكل كلمةٍ فيها، كوة سرية يتجسس منها الماضي على الأحياء" القصائد تدلنا على وجود بساط الريح ما دامت تنقلنا إلى الضفة الثانية، وكلمات القصائد كوىً يتجسس منها الماضي الميت على الأحياء، أي أنها أيضاً بساطُ ريحٍ زماني أيضاً وليسَ مكانياً فقط؛ قِدمُ الكلمات واللغة يجعلُ منها عيوناً للماضي ما دامت الكلمات واللغة قادمة من الماضي، ولا تستطيع إلا أن تأتي من جهة الماضي، هكذا يصيرُ الزمن في القصيدة ممكنا لذهاب الماضي وعودته، مثلما تستنهضُ القصائد الآباء والأجداد دوماً ليروا ما حلّ بالأبناء والأحفاد، القصائد مكمنُ الأعين القديمة التي تراقبنا، ونشعرُ بها، هكذا تحتفظُ القصائد داخلها بعيون الشعراء القدماء "حقيقةً ومجازاً"، وهكذا في قصيدة حانة الكلب سنرى عيون شعراء الماضي تعود لتتجسس على الأحياء.

يعود جبران خليل جبران حالماً في نيويورك، وأبو فراس الحمداني أسيراً لدى الروم، ويعود المتنبي مضمراً في "الديوان المهيأ لرملٍ لا يعرف مستقراً ينتظرُ قافلة منسية في بئر الآلاف بيدين ضارعتين" ويعود أبو العلاء المعري في الأعمى الذي نظرَ إلى أدبي، والياء للمتنبي المضمر في الياء وفي الاقتباس من بيته الشهير؛ ويعود المعري في شخصية الرهين أيضاً "حيث الشعراء يطالبون بأن يُسملوا ليفتحوا حواراً مع رهين المحبسين" شعراء يجوبون ظهر مركب القصائد يَظهرون في حانة الكلب، والقضية الشعرية خطرة لأنها اتهام بموت الشعر، اتهام بقتل الشعر على يد التجربة الجديدة: قصيدة النثر؟! اتهام نراه في المقطع التالي بوضوح "أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك كأنني فتحتُ حنفية المحيط بمطرقة" مطرقة سركون بولص الشعرية هنا والتي يحاول بها فتح حنفية المحيط تذكرنا بالتفلسف بمطرقة لنيتشه، لكن سركون يكتب الشعر بمطرقة، يفتح حنفية المحيط بمطرقة، لكن أي محيط هذا؟ إنهُ المحيط الذي في القاموس المحيط للفيروزآبادي مثلاً، أو المحيط الذي تغرق فيه السفن عندما يتحدثون عن فن الملاحة، المحيط المحيط نفسه، محيط اللغة الذي تتهادى فوقه سفينة المخلوقات، سفينة نوح.

"وعندما أكادُ أنسى العربية أغمضُ عينيّ وأحلم لأستحضرَ المعجم من الذاكرة في رأسي مركبَ نوح في بحر متلاطم" اللغة التي عندما يكاد ينساها يغمض عينيه ويحلم أي ينام فيستحضرها، العربية التي في المعجم الذي في  الذاكرة، والمعجم وسط مياهِ الأزمنةِ هذه يصير مركبَ نوح في البحر المتلاطم من المخلوقات "تدوزن كل سمكةٍ فيهِ حراشفها وهي تسبح في/على عتبة/ خارجَ نافذةٍ مشرعةٍ على مصراعيها وسط لساني موسيقى ربع اللحن" أسماك البحر المتلاطم تدوزنُ حراشفها! أيُّ أسماكٍ مدوزنة هذه إلا الكلمات، إنه ليس مركبَ نوح ولكنهُ المعجم، وليس البحر المتلاطم من المخلوقات ولكنه محيط اللغة، وتلك الأسماك/الكلمات تسبح في ثلاثة مواقع من النافذة المشرعة وسط لساني (في/ على عتبة/ خارج النافذة) الكلمات هنا أو الأسماك المتوزعة، الأسماكُ التي تقال، الكلمات التي في ثلاثة أمكنة: منا، فينا، وخارج النوافذ التي في ألسنتنا؛ النوافذ: الأفواه تعزفُ موسيقاها، الكلمات التي تسبح تُعزفُ على "موسيقى ربع اللحن بيات أصفهان سيكا همايون الشرقُ يدندنُ على العود في آبار الجهة الغربية" الشرق يدندنُ عود الأسماك/الكلمات، في داخلِ آبار جهة الغرب، من الآبار المظلمة تخرجُ أصواتُ المعجم الغارق، معجم المركب: مركبُ نوح، وأسماكه وكلماته التي تسبحُ في ثلاثة أماكن من أفواهنا، من الآبار التي في جهة الغرب، هناكَ حيث كان سركون بولص مرةً، فهل تسمعون عودَ الآبار ذاك في تلك الجهة؟

يأتي النذير أولاً على فم الراوية "يظهرُ راويةٌ ذئبٌ مهلهل الثياب حادٍ يهلهلُ هامساً يهمهمُ بالهلاك يروي عليّ كالسيل ويلَ الشعر" (الويل للشعر) همهمة هلاك تأتي على لسان الراوية الذي يريد التنبؤ، وكما أسلفنا في أقرب العميان الذي يهمهم بالهمس يهلهلُ بالهلاك كأنني فتحتُ حنفية المحيط بمطرقة، إنه التعبير عن مرحلة التجربة الجديدة في 1975 عام حانة الكلب، أو بالأحرى "بئر السبعينات"، اذا استخدمنا توريات حانة الكلب، ومن فجر المحاذير حيث انتقل نبعُ القرية إلى الرجل الظامئ، ومن أسماك مركب نوح، والعيدان التي في الآبار وبالضبط من النوافذ التي في الأفواه يخرجُ الشعر "الشعر: رأسٌ مشعث يثبُ من مناماتي من قراب ذاكرتي" (الرأس المشعث) "رأسٌ يثبُ فجأة من خندق فمي حين أفتحُ شفتيّ من الظمأ يتسلقُ أسناني أكياساً من الرمل هاجماً إلى الأمام شعره مشعّثٌ ولكن في فمهِ كالإعجاز تتذأبنُ الحمامة يهدلُ الذئب" الشعر المشعث، غير مصفف إن شئنا ولا مُرَجّل، هو مشعث خالٍ من التزويق لأن هذا (الرجل لا يجد ما يُرَجِّل به شَعره)، إنهُ الرأس الناهض من النوم في الريح والصحراء والبحر والعاصفة والإعصار، إنهُ يخرجُ من ذاته وفي ذاته، يخرجُ الشعر ذاته في قصيدة هي شعر من ذاته بهيئة رأس مشعّث، متجاوزاً القالب كي تتذأبن الحمامة على يديه ويهدل الذئب بالضبط في فمه يحدث الإعجاز؛ وقلعة الأوهام، قلعة عموم الأوهام هذه هي التي ستنتقلُ من مكانها وتنقذ الشاعر من التبول في فوانيس القطارات لتنام الصحراء ويستريح التراب، ومن جديد يجد سركون بولص نفسهُ نائماً في حانة الكلب.

"لكننا نبدأ عادةً بالبداية أي الخروج بكل ما نملكهُ من الصدق نحو الفريسة التي ستقودنا إلى قلب المعنى لأن المعنى دائماً هناك يدخنُ صابراً في نهاية القصيدة منتظراً وصولك وهو يبتسم باحتقار" تلك هي القصيدة التي يدافع عنها سركون بولص أمام نبوءات الهلاك وويل الشعر، القصيدة التي يبحث عنها سركون عند حنفية المحيط بمطرقة، وما يريده سركون هو: "أردت أن تكون هذه قصيدةً تجربُ فيها أن تهاجم نفسكَ بالقلم بالجوع والمشاعل والحجارة؟ ليصب بعضُ الدم في حضن القارئ؟" تلك هي القصيدة التي تدلنا عليها قلعة أوهامنا، الذهاب إلى المعنى هو المقصود، وبكل ما نملكهُ من صدق، الوصول إلى الشعر الذي ليس في الشكل لكن في المعنى، والخروج من تنظيرات الأشكال إلى موقع المعنى حيث يدخن سجائره، على الأقل كي يمكن أن يصب بعض الدم في حضن القارئ، "لكنني ويجب أن تصدقني (أعلم أنك ستصدقني!) أؤمن بأنها ضرورية إيماناً غريباً يفاجئني لأنني لست واثقاً من نفسي حين أقول هذا" لحظة الصدق التي في عدم الثقة والإيمان الغريب، الرهان ليس على ما تقوله البراهين ولكن على الداخل، على الصفاء المؤمن خارج حسابات الشروط الخارجية. أي الخروج بكل ما نملك من صدق.

لا تتوقف حانة الكلب عن الإبحار على ظهر مركب نوح في الطوفان، فبعدها نجد أنفسنا في سان فرانسيسكو وسيجارة في أعماق الليل، ورغبة في مناقشة الشعر مع أصدقاء مرعوبين من طَرقات الأبواب ليلاً، يظنون أن نظام بلدانهم جاء ليلاحقهم هناك، أو في الصباح في فلمور مع أصدقاء فلسطينيين في دكاكينهم المسيجة بالقضبان في أحياء الفقراء، وبلاد العرصات، حيث "بدك تشنق حالك، مش هيك؟" و "كيف حال الشعر؟"، هنا يتحول سركون بعد مثالٍ مقلوب عن الهمّ الذي هنا وينعكس هناك ليروي الهمّين معاً، عن شرح حالة سان فرانسيسكو ليذكرك بمحمولها، الحديث عن بلد المهاجر يعني الحديث عن البلدين معاً في نفس الوقت، وليسألك بعدها "لعلك أدركت قصدي، من الواضح كما ترى أنني أهدفُ إلى شيءٍ غامض قليلاً لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهى البساطة أيها الصديق لا أريدك أن تسيء فهمي هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة أذكر هذا لكي لا تتهمني بأنني تأثرت في كتابتها بشاعرٍ (عالمي!)" سخرية القوسين من الـ(عالمي) لأن كل شاعر يكتب في أي لغة هو شاعر عالمي؟ إنهُ الحديث عن العالم حيث نعيش كلنا مؤقتا بالدين هذه المرة، من هم هناك ومن هم هنا: في العالم.
العالمية والمحلية وكتابة الشعر ستكون على الحالة التي يصفها سركون في نفس الحانة نفسها "حيث كل شاعرٍ يخاطر بالكتابة على هذا النحو لن يكون حتى محلياً! وسيقضي سنواته الباقية بعيني نسرٍ محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت الشهرية" صاحب البيت الذي سيأخذ دور السلطة على الرجل الفقير، فيأتي وهو يعرف جيداً أن الرجل الفقير لا يستطيع أن يدفع الإيجار، لكن للتسلية، أو إشباعاً لنزعة غريبة في الإرهاب "أو ربما لأن الكلب يعرفُ أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه يقرع الباب بحذائه، وخصوصاً بالكعب المليء بالمسامير.."، ذلك الشاعر " سيقضي سنواته الباقية إذن بانتظار الجلاد الذي سيأتي متنكراً ببدلة ممرض رسمي طيب القلب يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترةً للمجانين." الشاعر سيقضي بقية سنواته بانتظار جلاد، الجلاد الذي قتل نفسه ولبس بدلة الممرض الرسمي يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترة للمجانين ويتقدم.

(ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة.)
هكذا تنتهي قصيدة حانة الكلب ولا تنتهي، بل تقطع، لنجدَ أنفسنا نائمين، نحاول إيقاظ الرجل النائم تحت الجبل، متراهنين على رداءة الأشربة في حانة الكلب، وعلى أن النوم بعد سكرتها في مركب نوح لا يُنيمنا عن هم الطوفان، فالطوفان قادم، أعِدّوا الأحذية.

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

الحب آنا كارنينا، تولستوي

من يتغنون صباح مساء بالحب، الحب كما يشرحه تولستوي في آنا كارنينا، حيث تمثل آنا الإيمان التام المطلق بضرورة الحب، دون أدنى ذرة تردد تتبعه إلى نهاية السكة الحديدية،

  
من وجهة نظر قارئ فإن ما يحاول تولستوي بيانه في آنا كارنينا هو أن الحب احتياج وجودي لا يملك أمام مساحته إلا الإمتثال طوعاً، وليست آنا هي العاشقة الوحيدة في آنا كارنينا، لكنها المثال، وفي الخلفية يتوارى ليفين. ليفين الذي يعتقد كثير من النقاد أنه يمثل تولستوي نفسه، ولديهم الكثير من الحق

في الطي أن فرونسكي يبدو دائماً غير لائق بآنا كارنينا، بعيد تماماً عن روحها، دائما ما شعرت أن ليفين هو الخيار المناسب لآنا، لكن آنا لا تلتقي مصائرها بليفين إلا في الختام

أعاد تولستوي كتابة بداية آنا كارنينا 11 مرة، وفي إجابة على سؤال ماذا أردت أن تقول بروايتك هذه قال تولستوي (إذا أردت أن أقول بالكلمات، كل ما أردت قوله في الرواية فعلي أن أكتب الرواية نفسها من جديد)
  الزمن الصفحة 328 يرى ليفين لوحة لآنا رسمها ميخايلوف، استرعت انتباهه، الصورة كأنما تريد أن تخرج من إطارها، لقد نسي أين كان، لم تكن الصورة لوحة وإنما امرأة فاتنة وحية، وفجأة سمع بجانبه: أنا جد سعيدة. كان هذا الصوت هو صوت المرأة التي في اللوحة..

(كانت كل كلمة مع آنا لها معناها، كان الكلام معها ممتعاً، وأشد إمتاعاً منه الاستماع إليها، لم تكن آنا تعبر عن ذاتها ببساطة وذكاء فحسب، بل انها لم تكن تنزع في حديثها إلى التباهي ولم تكن تنسب لأفكارها أدنى قيمة. لقد كانت تمحي أمام محدثها)ص 385
(رثى لها وخشي أن لا يفهمها فرونسكي فهما كاملاً)ص 389 هذه هي العبارة المحورية التي بنيت عليها التعليق الثاني أعلاه حول ملائمة ليفين لآنا أكثر من فرونسكي. ليفين يشعر أكثر بقيمتها ويخاف أن يجهل تلك القيمة من وهبت لأجله حياتها: فرونسكي الضابط العسكري
(وإذا مت سوف يندم، وسوف يبكيني، وسوف يحبني، وسوف يتألم بسببي) آنا كارنينا ص 452
نحن جميعاً خلقنا لنتألم، ونحن نعلم ونسعى الى كتمان ذلك عن أنفسنا، لكن متى رأينا الحقيقة فماذا يجب أن نفعل؟) آنا 483
(اغفر لي يا الهي كل شيء) التمع النور الذي أضاء لها كتاب الحياة بحسراته وخياناته وهمومه، التمع ببريق وهاج لم تعهده من قبل، وألقى الضوء على كل ما ظل في العتمة حتى الآن ثم تذبذب ذلك النور وشحبَ وانطفأ إلى الأبد ص 486
سيكتب دوستويفسكي عن آنا كارنينا (رغم التنافس والمعاصرة بينه وبين تولستوي) آنا كارنينا شيء كامل معمل فني ولا يوجد عمل أوروبي شبيه به أو نستطيع مقارنته بعمل تولستوي.

بعد آنا كارنينا ستنقلب حياة تولستوي تماماً، سيكتب اعترافه بأن اكتشف أن الحياة لم تعد تحمل معنى، وأنه بعدها صار لا يعرف لوجوده هدفاً، تولستوي العظيم بعد أن أنجز كارنينا يتنكر لمشواره الأدبي، زواره في تلك الفترة يصفونه بالجنون، وهو يتحول خلال أعوام لكتابة قصص شعبية ذات مغازي أخلاقية ومسرحيات. ثم لتتوتر علاقته مع عائلته نفسها، ويتفكك تولستوي نفسه كقطار

كقطار عظيم وله صفير مميز يستمر لقرون.. له نفس نغمة القطار ليو تولستوي..      


إبراهيم سعيد.   

الكعبة أول بيت للناس

الكعبة: أول بيت للناس
الثلثاء, 16 أغسطس 2011
ابراهيم سعيد -
إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [آل عمران : 96]
1.
الكعبة في اللغة سميت كعبةً لارتفاعها وتربعها، ويقال لما يبرز كعبٌ وكاعب.
أتأمل صورة الكعبة في الشاشات وأتسائل لماذا تكون الكعبة أخفض مبنى وسط ذلك البناء المتشامخ عليها، تشامخاً اسمنتياً، ملحياً، بكهرباء كشافاته الضوئية القوية، وهي هناك تقف في اطمئنانها، وسط البنيان المتعالي الذي عجز عنها فلا هو دائري حولها، ولا مكعب كما هو مقترحُ بيت الله العمراني.
الكعبة ببنيانها المرصوص منذ القرن الثامن الميلادي بيد واحدة من أبغض الشخصيات الإسلامية (الحجاج بن يوسف الثقفي) الذي:
(حاصر ابن الزبير في الكعبة وأمر برميها بالمنجنيق وحدث أن تجمعت غيوم راعدة فنزلت صاعقة على جيش أهل الشام وقتلت عدداً منهم. فتطير الشاميون واعتبروا ذلك رداً إلهياً على قصف الكعبة. فأوضح لهم الحجاج: «أنا ابن تهامة وهذه صواعقها» وطلب إليهم التريث حتى يصيب عدوهم ما أصابهم.. وفي اليوم التالي نزلت صاعقة على جيش ابن الزبير وقتلت عدداً منهم.. وبذلك استطاع تجاوز الأزمة في معسكره(
هادي العلوي، تاريخ التعذيب في الإسلام
(البَنيّة) بيدِ الحَجّاج، أي المبنية (بين البنية والستر) جرير. الحُجّاج يطوفون وهي هي، متدثرة بكسائها الأسود الصامت، محتضنة حجرها الأسود الذي سرقه القرامطة في يناير 930م وضعوه على قبة مسجدهم، ولم يسترجع منهم إلا في 952م من القرن العاشر، هو نفسه الحجر الأسود الذي يقبّله الناسُ الآن، وكانَ الناس يقبلونه بركوع، ذلك الركوع لم يعجب محمد علي باشا فرفعَ مكان الحجر الأسود للأعلى في القرن الثامن عشر ووسع قطره.
الحجر الأسود الذي تزعم الرواية أن الحاكم بأمر الله الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي أرسل رجلاً ليحطمه، فقتله الناس بعد ضربته الأولى للحجر، ورواية تزعم أن مجهولاً لطخه بالعذرة ليصدّ من يقبلون الحجر في 1674م
ثم لم تكن مكة إلا تاريخاً طويلاً من المعارك والحروب منذ فتح مكة حتى نهاية حكم الأشراف والدولة العثمانية، كانت كل حربٍ تزورها، كأنما الحروب تعتمر! والفتن تحج!!
2.
الكعبة ذلك البناء الذي يشعر المسلمون أنه يمثل منتهى الطهر، غاية الوضوء والضوء، ذلك البيت الإلهي يحضن نيزكه الأسود، حجراً مندمجاً بركنها الشرقي الجنوبي، قرب بابها العالي. الباب الرفيع الذي يقارب ارتفاعه المترين عن سطح الأرض. بابٌ وسلّم مفقود، سرقه الزمن وأحداث التعرية، ولم يفتقدهُ أحد. ليسأل: أين السُّلم؟
الكعبة وحجرها، وسترها وحطيمها. ضلعها المتحطم في ذلك القوس الرخامي المبني على جانبها الشمالي.
ولهفتها لتلك الضلوع التي حطمتها مجانيق الحجاج، تلك اللهفة التاريخية الطويلة.. الطويلة.
كما لو أن سيلاً جديداً مرّ عليها وجرفها، وأيادي الأنبياء بعيدة.. بعيدة. «1»
3.
الكعبة التاريخية، والماثلة أمام المليار والستمائة ألف مسلم، خمس مرات في اليوم، خاصة في رمضان، البناء المعظم الذي يزوره في الحج ثلاثة ملايين مسلم تقريباً ومثلهم تقريباً في رمضان.
واقفة أمامهم جميعاً، أمام المشاهدين البعيدين خلف الشاشات، وأمام الزوار، في صمت الحجر، ينطقُ شكلهُ كالكلمة، رمزاً لبيت الله، على هذه الأرض. بيت الله المتواضع جداً والصغير المتقشف جداً يتبرأ من أفكار الأغنياء، من تقديسهم الذهب، بيتٌ يعتذر للفقراء والمساكين والمشردين والجوعى والمظلومين عن الذهب الملصق بجسده.
أيها الذهب المخادع كيف وصلت إلى الكعبة؟ أيها الذهب يا صنمَ العصر، وإله الدهور الجشعة الطماعة، ربّ الحروب والكراهية، كيف تجرأت أن تصل إلى باب الكعبة؟ أراك أيها الذهب على كل المباني الدينية المقدسة، زينة محرّمة؟ الفضة أكثر تواضعاً وصدقاً وبهاء.
4.
متواضعة، تستقبل الصلوات من بقاع الأرض الأربعة، جهةٌ في الكرة البيضاوية، جسمٌ أسود يمتص الضوء الصادر عن الصلوات، القادم من كل القباب والمآذن والمحاريب في فلك هذه الأرض، من كل سجادة، من كل روحٍ تصلي بقدر إيمانها، تستضيف تلك الصلوات في صدر جدرانها الأربع وزواياها القائمة الثمانية، وترفعها لله.
الكعبة شاهد على أمل الناس ورغباتهم وأدعيتهم واعترافاتهم، وجرائمهم: روحٌ معذبةٌ تبكي عند الحجر الأسود، أخرى عند المقام، ثالثة عند زمزم، الأرواح ترتبك أمام كثرة الأشياء المقدسة في أمكنة متقاربة تنفضُ الروح نفضاً لتذكرها بزمن ما قبل الخلق.
5.
أشياء مقدسة، من الكعبة ذاتها، إلى مقام إبراهيم، إلى بئر زمزم، إلى الصفا والمروة، ودائماً إلى الشرق، إذ ليس في الغرب أي شيء مقدس، الجهة الغربية جهة متروكة! رغم أن البطحاء تمتد جهة الغرب في تصميم المدينة «2» ، والجبال شرقها، رغم ذلك تتناثر أشياء الحرم المقدسة إلى الشرق فقط، وسط الجهة الجبلية، واثنان من الجبال انضما لقداسة الكعبة، لأن أماً مرةً هرولت عليهما تستطلع قادماً، وتفكر في النبيّ. وترضع النبي.
أمٌ وحدها وسط المقدسات، في مكانٍ مقفر، لا شيء إلا قواعد مندثرة في مكان الكعبة، قواعد ربما من أعماق التاريخ. أو منذ بدء الأرض هناك، كأنها سر الأرض، وحبلها الإلهي السري، وسرتها.
6.
تتدثر بثوبها الأسود، الأسود على الدوام، لا ترفعه إلا في الإحرام. لتظهر بطانة الثوب الأسود بيضاء بأخضرها الشفيف أو خضراء أمام بطانة داخلية بيضاء. ترفعهُ ثلاثة أيام النحر، كأنها ترفع ثوبها عما يسيل على الأرض من دماء الأضاحي..
الكعبة، ليست في الصور التي يعود بها الحُجاج أيها الطفل الصغير، الكعبة في بث حيّ ومباشر على الفضائيات، مصحوبة بشخصية صوتية مميزة تتلو القرآن، شرطيّ ما على باب الكعبة، يلبس الأخضر، يتعلق بحبل الأستار، يدفع الناس عن الحجر. (والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، إنما أنت حجر لا تضر ولا تنفع) عمر بن الخطاب.
لكنهُ هناك، حجرٌ أسودٌ ترتبط بوضعه الأول في مكانه أيادٍ نبوية، منذُ إبراهيم وإسماعيل، ومحمد يدٌ كريمة تصلح النفوس، يدٌ تحكم بين الناس وتضعه في مكان القلب من الكعبة. حجراً أسوداً كما لو أنهُ قلبٌ نابض، قلب صامتٌ ينبضُ في صمتها.
والكعبة نفسها قلبٌ نابضٌ للمدينة، فقلبٌ عالميٌّ من العبادة. (القلب بكل تناقضاته هو بيت الله الأول) رجاء عالم «3».
7.
الصمت الذي لأول بيت، ألهذا كل البيوت صامتة رغم الحب الذي نكنه لها؟ لأن أول بيت صامت.
والحجر هناك وسط قفصه الفضي، حيث اللون الفضي الوحيد الذي يزخر بضياء قمري عجيب..
عينٌ مقعرة في حجر، وأجفان فضة.
8.
لماذا لم يفكر أحدٌ بالنخلة؟ هذه الكعبة فأين النخلة؟ هذه زمزم فأين البستان؟
لكن زمزم مالحة: تباركتَ أنهار البلاد مليئة بعذبٍ وخصت بالملوحة زمزمُ. المعري
الأرضُ جبلية فلا زرع، وادٍ لا زراعي : رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم : 37]
9.
الصفا والمروة كأنهما الحائط الشرقي.
الصفا والمروة (المروة؟!) ورواية عن رجلٍ اسمه صفا، وامرأة اسمها مروة، زنيا فمسخهما الله جبلين، رغم أن ابن بطوطة يحكي في زيارته للبيت الحرام عن أعرابي وجدَ يزني في الحرم فسامحهُ القضاة لجهله بحدود الدين.
لكن الجبلين هناك، حيث هرولت الأم التي رعت أصول الدين، تبحث في الأفق عن شيء، عن ماء لعطش الوليد، والماء تحتَ قدمي الرضيع.
والرضيعُ يكبر نبيّاُ، والأب يعودُ نبياً «4» يجتمعان ليرفعا القواعد الأزلية، لله. بيتاً سيعني للعالم شيئاً فخم التقديس، جميل الإستعارة، قبلةً للصلوات.
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة : 127]
قواعد الكعبة الأولى، القبة المكعبة.
10.
الحرم قبل إبراهيم وأهله بلقع مقفر، وادٍ مهجور، يتحول ببطء مع الزمن لمدينة، وسكان متبدلين من القبائل، من جرهم فقريش العرب.
الكعبة سحرٌ في وادٍ مقفر يجذب الناس، لا ظل ولا واحة، إلا شربة ماءٍ مالحة من زمزم الدين، الدين وحده يجذب الناس والقوافل، يأتي بتجارة العالم الشامي واليمني، كل صيف وشتاء إليها.
وحلم إبرهة الحبشي تملأهُ الطير الأبابيل بحجارة من سجيل.
وبيتٌ شعري لعبد المطلب ابن هاشم جد النبي: (لاهُمَّ إن العبد يمنع رحلهُ فامنع رحالك/ لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك/ إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدالك) رغم أنها لم تكن قبلةً أيامها إلا استعارة، لكن الرواية قائمة.
11.
عبدالمطلب، فعبدالله، فمحمد النبي، الإسم الذي ستجدهُ في لوحات منقوشة في الحرم كله وداخل الكعبة.
داخل الكعبة: الأعمدة الثلاثة، واللوحات المنقوشة على الجدار، وباب التوبة الذهبي، ومنضدة بين عمودين، والثالث أبعد، وثريا هائلة ضخمة تملأ سقف القبلة بأكمله.
القبلة بداخلها وخارجها صامتة، البنيان الصامت المتدثر بسواده ليستقطب ضوء الصلوات المنبعثة من جهات الأرض المختلفة، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه[البقرة : 144]
كان النبي قبل ذلك يصلي قربها وقبلته بعيدة هناك في بيت المقدس، وكانت يساره كما هي الآن صامتة.
قبلة، وجهة الصلاة، وكل بيتٍ كان ينفعُ قبله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس : 87]
فكرة البيت نفسها إلهية!!
13.
فوالله لولا الله والخوف والرجا لقبلتها بين الحطيمِ وزمزمِ. والمقام هو الذي بين الحطيم وزمزم، كان يريد أن يقبلها كالصلاة.
الشعر والكعبة متدثرة بالقصائد المعلقات، وفيها كل تلك السير المليئة بالحب، كل تلك الأبيات العاشقة، والأشعار الفخورة، والأخلاق المترفعة في الأبيات، والأسماء الرفيعة لشعرائنا القدماء، الذين بثوا قلوبهم في الكلمات. قصائد معلقة على جدار الكعبة، لتقرأ في الطواف والصلوات.
-------------
1- صهل أفراس الحرب على أبواب الكعبة يا أهل الشام ووحدي/ أبسط للملتجئين إلى ظلّ الأحجار السوداء ردائي.
سليم بركات، وجهي العصري
2- تنظر من أعلي إلي الكعبة. والناس يدورون حول الكعبة في أشكال هندسية. هي تجربة رائعة. ما ضايقني أنه لم يكن هناك موسيقي. لا يمكنك قراءة الشعر ولا شرب القهوة في شوارع مكة وجدة والمدينة. كيف يمكن الحياة بدون موسيقي؟ تخيل لو كان العالم كله مثل السعودية؟!
إيليا ترويانوف روائي ألماني.
3- أعتقد أنني محظوظة بالولادة في بقعة يتعارف خمس سكان الأرض على كونها بيتاً لله.
رجاء عالم.
4- عذت بما عاذ بهِ إبراهمُ مستقبل الكعبة وهو قائمُ/ يقول أبقى لكَ عانٍ راغمُ مهما تجشمني فإني جاشمُ. زيد بن نفيل