الاثنين، 9 نوفمبر 2015

لماذا على الشاعر ان يرحل مبكراً؟



لماذا على الشاعر ان يرحل مبكراً؟

طرفة بن العبد امرؤ القيس ذو الرمة وابو تمام لوتريامون بوشكين نوفاليس وجورج تراكل والشابي وامل دنقل والسياب شعراء ذهبوا مبكرين بين نهاية العشرينات وبداية الاربعينات من العمر، ومؤخراً فقدنا الشاعر النبيل النادر حمد الخروصي في تمام الاربعين، وعلى شرفه وبأشعاره العامية الشعبية هذه المادة التي تحاول ان تقرأ وتجيب باستخدام المادة الشعرية نفسها على سؤال الرحيل الشعري المبكر هذا.

حمد الخروصي الشاعر الشعبي:

تسبب الموت المبكر بالنوبة القلبية للشاعر حمد الخروصي في السادس من اغسطس لهذا العام بمدى من الفقد الروحي اصاب الناس والبلاد، موته المفاجئ في رحلة استجمامه في اوروبا، تلك الرحلة التي كانت تسكنه كالحلم، كانت حلماً فاجعاً لنا، لكن ليس بالضروره له كذلك، رثاه الناس في كل مكان، وخصته الصحف جميعها تقريباً بالذكر والتوديع، ولا زالت الفعاليات الثقافية لذكراه تتوالى، ذلك انهُ كان قيمة فنية كبيرة ورحيله خسارة ادبية؛ تجاوز حمد الخروصي بشعره وعمله الانفاق الضيقة والمساحات الرطبة المعتمة وبدأبه واخلاصه المنقطع النظير لشعريته الخالصة دون سواها، صار ترجماناً شعرياً لوجدان الناس وولد في شعره تعبيرهم الصادق وحسهم، لسانهم وصوتهم، وهو كان اينما يذهب ينقب عن الينابيع الاصلية للشعر، عن شعراء العامية الباقين، ويعيد تقديمهم، سواء على مسرح كلية المصنعة التقنية حيث كان يعمل مدرساً، او في المنابر العامة الاخرى، كان يفتش في كل مكان عن الشعر، وعن الشعر العامي خاصة، وبعمله اكتشفنا الشعر الشعبي لدى من كنا نظن انهم لم يكتبوا الشعر العامي والشعبي، كاكتشافاته في ديوان الحبسي شاعر اليعاربه الضرير لمقاطع من فن المسبّع الشعبي، عدا ذلك كان لمشاركاته الشبابية في حراك الأمة، ذلك انهُ كان متحداً بروحها، لاصقاً فيها، هي الوطن الذي كان يسميه غيمة الحب في قصائده، هي البلاد التي كان يقسو عليها في اشعارها من شدة حبه لها، لا يريد ان يراها في اي وضع مخجل او شائن، وبكل طيبة خاطر عندما توجب عليه ان يدفع الثمن من عمره دفعه بالشهور التي قضاها في السجن المركزي، لم يكن مختبئاً خلف كلماته، بل كان يدافع بجسده امامها، دخل شعره قلوب الناس لأن قلبه الصادق كان هناك في ذلك الشعر نفسه، في كل كلمة تنساب من ينابيع قلبه، نفس القلب الذي كانت حياته معلقة به.
تجذر حمد الخروصي في اكناف الشعر الشعبي العماني والخليجي والعربي، وخدمه بكل ما يمكنه ويستطيعه، في مجالس الشعر الشعبي وفي المهرجانات، وحتى حين كان الشعر الشعبي العماني خجولاً يختبئ خلف العتبات لا يجد ساحاته الا في ملاحق اسبوعية مقارنة بالشعر الخليجي المشتهر بالمنابر المبهرجة بالمجلات المتخصصة والاستضافات التلفزيونية، كان هو من اوائل من عمل على تجويد الذائقة النقدية الشعبية، بالمقالات التي كان ينشرها في ملحق عمان للشعر الشعبي، ثم اشتغاله على تغطية وحصر الشعراء الشعبيين في كافة المناطق العمانية، عدا عن اشتغاله في المجلات المتخصصة بالشعر الشعبي وحتى حين بدأت موجة البرامج التلفزيونية المتخصصة كان حمد الخروصي ايضاً واحداً من المشاركين في البرامج النوعية التي تهدف لرفع جودة شعر العامية في المنطقة، كان مؤمناً بالشعر وبالشعر الشعبي بالأخص، بوصفه بوابة لقلوب الناس، قريباً من كلامهم اليومي، ومن مشاعرهم، ووقوداً لأغنيات الناس وفنونهم، وفي عز توهجه النجمي، في أوج اشتعاله خبا جسده فجأة وتوقف قلبه في رحلته الاوروبية، قبل ان يرى كتابه الذي كان يعمل عليه في نقد الشعر الشعبي، ولا ديوان اشعاره. 

لماذا يرحلون باكرين؟

لماذا على الشعراء ان يرحلوا مبكرين، هل كي تضيء القصائد؟ أيخبو نور الشاعر كي لا يزاحم نور الاشعار؟ من يدركون حديقة الخلود وطريق الأبدية كالشعراء والفنانين يعلمون ان جهد الفاني بمستطاعه ان يبقى اكثر، هل لذلك يجهدون لاعمار ذلك الباقي وفي الأثناء يحترقون بسرعة تتناسب مع شدة الإضاءة المنبعثة من ضياء شهابهم الخاطف، وفي شبابهم ذاك ينثنون ليعانقوا الأرض عناق الموت؟

ما الذي يفسر هذا الذهاب المبكر ان لم يكن ذلك الاحتراق المتأجج الذي يلتهم اعمارهم بسرعة، والذي يستهلك حطب القلق كله، انه التلهب الذي غذاه الشاعر بغاز الحب السريع الاشتعال مطولاً، ذلك التلظي الكبير الذي يُمكن مشاهدته من بعيد جداً وبذلك يُعرف ويُشهر، اسم الشاعر علامة على قصائده، رغم ان الأشعار والقصائد بمقدورها العيش يتيمة النسب ومجهولة الأب، رغم انها معلومة الأم بالضرورة، أليست ابنة الحياة؟!

اضطربت مياه المشهد بغياب الشاعر، وفجأة وجد الناس انفسهم في حضرة القصائد والاشعار، ما هو قصد الشاعر؟ ما هي مقاصده؟ ليس السؤال مناسباً للمقام لكنه ولا بد سؤال ملح تستثيره عيون الأشعار كلما حدّق فيها المرء، غياب الشاعر يجعل القصائد تتقدم، لتنير الفراغ الذي خلّفه، انتظار الجديد من الشاعر اصبح مستحيلاً، لكن الجديد كامنٌ هناك: في اعطاف القديم نفسه، تبدأ المعاني بالتوالد امام عين القراء من تلك القصائد نفسها، حتى وان كانوا قد قرأوها من قبل، تملأ القصائد والاشعار فراغ مكان الشاعر بنورها اللابث.

تضطرب انهار الأيام، وبحيرات النفوس بسبب غياب الشاعر، ذلك الغياب المفاجئ، الذي جاء على حين غرة، والذي لم يكن ينتظره أحد، عدا الشاعر نفسه، الموت الذي لم يدر بخلد أحد، وأين موهبة الموت ان لم يكن بامكانه دوماً خلق الفجيعة؛ تحدث الفجيعةُ إذن ويُذهل المشاهد من رؤيتها، وتتباين ردود الافعال والاستجابات تختلف، فيما روح الشاعر ترفرف حرة طليقة من سجنها الفيزيائي، في حدائق عالم الغيب المجهولة.

الشاعر يتبع قدره، يتحول الى علامة غنية وإلى رمزٍ ثري، مقروءاً ومسموعاً ويمكن محاولة استيعاب قصديته عبر الاقتراب من مقاصده الشعرية، تلك التي يقال في تراث النقد أنها المعنى الذى في بطن الشاعر، عبر تلمس ذلك المعنى الذي في احشاء القصائد الغامضة، في أعماقها البحرية السحيقة، في آبارها السرية، هناك يمكن استشفاف ادلة على قيمة تلك العلامة الغنية والرمز الثري.

تحولات الحبيبة:
حبيبة الشاعر تصبح رمزاً هي الاخرى عن الحياة، يتوالد المعنى من جديد بمرور الزمن، برحيل الشاعر، تتحول الحبيبة والمعشوقة الى مجرد رمز حي عن الحياة نفسها: 
مخذول من نفسي
مصدوم بحضورك
شفتك مثل نجمه
ولما ألتفت قلبي
فجأه أنطفى نورك..!!

اي نورٍ بالضبط هو الذي انطفأ؟ بالنسبة لنا نور الشاعر هو الذي انطفى اما بالنسبة لقلب الشاعر فنورنا نحن هو الذي انطفأ!
من هي اذن تلك المضمرة دوماً في القصائد التي كان القلب يحترق بشدة من اجلها، ربما لم تكن امرأة، لم تكن الحبيبة، المعشوقة، أليست الحياة باكملها متنكرة فيها، تلك الحبيبة الجارحة التي بلغ تطرف الشاعر وادمان صداقة جراحها الى حد تمييز جراح حبها، الى درجة معرفة الجروح الوفية من الجروح الخائنة:
بعض الجروح اللي تجي من غيابك سميتها اغلى الجروح الوفية

الحب عالم الشاعر، يجد فيه وقود تأججه المستمر، الحب يجسد له كل المعاني في اشخاص حقيقيين من لحم ودم، وقصائد الشاعر هي النار التي تشتعل:
افتحي باب السوالف للطريق/ وادخلي مع موجة البحر- بدمي/ كل شي موجود من أجل الحريق/ حضني المشتاق وغواية فمي..!!

بضربة خاطفة، هي ميزة شعرية، يلخص الشاعر غرض الوجود كله من اجل الحريق، بما في ذلك احضان العشق والاشتياق، انه الحريق الذي يحول الحب الى وقود من اجل اشتعاله العظيم الذي يستبد به، يحرقه وفي حريقه حياته، ناره هي نفسها وجوده، هكذا فإن الحب المؤلم هو الحب الانسب لهذا الحريق، المفقود هو النوع المطلوب لهذا الاشتعال، الحب القاسي، الذي خان العهود، الذي يتجاهل. يتعمد الشاعر الضغط على الجرح واستفزاز الألم عامداً، هكذا يتذكر الغريم ويعيد مجددا ومرة تلو مرة بتنويعات مختلفة مشهد الخيانة، مشهد الحبيبة التي هربت مع الصاحب الخائن:
كل حبٍ له زمن/ كل غلطه لْها ثمن/ بس أنا عندي سؤال/ إنتي لمن رحتي لمن؟/ لْصاحبي؟ هو صاحبي؟!/ ما غدا هو صاحبي إلا عشانك../ وآنا أتمنى مثل ما خانني/ يكون خانك!!
تتم العودة الى ذلك الحب الكذاب الخائن، الذي يجعله الحرمان مفقوداً ويجعله التذكر موجوداً، من اجل تأجيج نار الذات به، حتى مع المعرفة التامة بأنه خائن تمساحيّ الدموع:
في كل غصّة قلب كلمة هاربه/ مع كل نبضة حب ميعاد وسهر/ خايف عليك من الدموع الكاذبه/ سالت تماسيحك ولا جفّ النهر..

الحب الذي تعترضه العوائق يغدو في اعماق الشاعر هو الحب المفقود والمطلوب، هو الحب المعاد تكراره، لا بد أن تقطع دروب الآلام طرق العشاق كي تمتحن الدعوى، أليست كلمة “احبك” مجرد دعوى تحتاج الى دليل، وأين يكمن ذلك الدليل اذن الا في الامتحانات العنيفة والشديدة، هو حب مثقل بالعوائق دوماً وفيه تغدو حتى صدفة رؤية الحبيب  ملزمة الاقتران بجدران الخجل: 
من خلف اسوار الخجل طارت لك عيوني حمام..

وغير مسموح لهذا الحب ان ينطفئ، بل يجب ان يظل واضحاً غير خافٍ وعلى الدوام متقداً:
وينك حبيبي مختفي لا نجمه اشوفك بها/ لا جات نارك تنطفي بضلوع صدري اشبّها

هي اشتعال ما نسميه حياة، وهي الدنيا والحياة نفسها ما نظنها الحبيبة والحبيب، اذن هاتي ايتها الايام الحبيبة كل ما لديك، في غمضة العين تلك التي نسميها العمر:
هاتي يا الايام هاتي/ دام لك قلبٍ حجر/ كل شي حلو بحياتي/ انتهى بلمح البصر.

في ضرام الحياة يشتعل الشاعر، في عالم الجراح العميقة للحب الجارح القاسي، يحترق بين الهموم الهائلة التي تحولهُ الى حطب مشتعل: 
مثل ما تاكل النار الحطب تاكلني همومي/ وانا كلما بغيت اطفي همومي اشتعل اكثر..

حتى محاولات التخلص من الهموم تكون سبباً في مزيد من الاشتعال، الاشتعال حياة الشاعر، اتقاد النجم، والاشتعال ليس الا حياة الشهاب والنيزك الخاطف ذاك.

الحريق:

في حياة النار لا يمكن التمييز بين الاشياء والآخرين وانا، في الحريق يتعادل كل شيء، في الاشتعال تتحول انا الشاعر الى الحبيبة التي رآها البحر:
البحر شافك/ تلعثم موجه الهادر/ واصبح ينادي الجزر مدّه اذا بنتي/ الليله انتي انا/ انتي انا.. انتي!!

النار مشتعلة، لكنها هي الحياة نفسها، بسرعة تشتعل الاشياء والازمنة وقتٌ خاطف، والعمر هو درب الحريق، من يستطيع ان يميّز حقاً ان كان هو هو نفسه:

هذا انا والا انا هذا/ ولا انا واحد ويشبهني؟!!

من يستطيع في الحريق ان يعرف لماذا كان يحترق وما كان سبب الحريق، او لماذا يكتب:

“حقاً لا اعلم لماذا اكتب؟ فالكتابة فعلٌ لا اراديٌ كالتنفس والتفكير والحب والألم”

“أنا وشعري نحاول نكشف المجهول أنا وشعري نوسّع رقعة المجهول”
كالنار التي تحرق وتضيء في نفس الوقت، اشتعال هو نفسهُ عين الاضاءة؛ والشاعر يدرك حجم الحريق والنار والاشتعال، ويعلم انه سيبقى مع الغصنين اللذين سيبقيان من الحريق، وقد لا يكون الغصنان الا شطري البيت الشعري:
اهدي خطواتك طريق ما بعد مرّه احد/ ما مثل صمتك رفيق ولا مثل شعرك بلد/ وش ترك منك الحريق الا غصنين وحمد؟!

اذن يرحل الشعراء مبكرين لأنهم يحترقون طوال الوقت، النار تسكنهم وهم يؤججونها باستمرار، يضرمونها غير مبالين بما تستهلكه من روح حياتهم واجسادهم وغاز تنفسهم الثمين، يضحون بكل شيء من اجل تلك العلامة الشعرية وذلك الفن الذي يتقاسمه الناس كخبز الأبدية من بعدهم، وبذلك الاشتعال المستمر، السريع، المتلاحق، تكون كينونتهم، واقعهم واشتغالهم، تكون لهم تلك القدرة على الضربة الخاطفة المصيبة، والقوة الكلامية المدهشة بسحريتها وفنها.

حياة الحريق والاشتعال تلك هي ما تستهلك عمر الشاعر، الذي يمر كالشهاب الخاطف، ذلك انها ليست من صنف الكد المجهد في الاعمال اليدوية، او الاسفار، او النصَب والتعب المتخلف من الأعمال الميكانيكية اليومية لحياة الناس، لأن الشاعر باشتعاله يريد ان يمتلك ناصية من الغيب ويلقي نظرة بعيدة من شرفة الزمن، ثم يريد ان يمتلك تلك الحساسية الروحية المتقدة، القادرة على التبصر بمصائر الأشياء، وكل تلك الرغبات المتصارعة في نفس الشاعر تستهلك وقته وعمره، وهو منذور أبداً للاتقاد المتلهب كما للرحيل السريع.

الحدس والوداع والتبصر بالموت:
الوداع الروحي هو ذلك الوداع الذي تسربه الروح الى الحياة قبل رحيلها، يظهر في التصرفات الاخيرة التي لا تفهم في لحظتها ولا تأخذ معناها الكامل الا بعد الوفاة، هناك تحت تأثير حدث الفقد علينا ان نعيد قراءة تلك الاحداث الأخيرة والكلمات القليلة في حياة الراحل بضوء الفقد فيظهر معناها واضحاً وجلياً.
كان حمد الخروصي مؤمناً في شعره بأن الروح تشعر بموتها، ففي رثاءه منذ اعوام خلت لابن عمه مازن الصبي الصغير الذي دهسته سيارة وهو خارج من الحديقة يقول:

“و”مازن” كان متهيي ولابس له وطن وتراب اكيد انه درى بالموت واخفى داخله ذا السر”

اما موته هو الشاعر فقد كان يستفسر مدة طويلة عن بُعد موته! منذ التاسع من سبتمبر في العام الماضي كان يكتب:
كل يوم وانا افك قيد وابني على نفسي جدار/ للناس من جرحي القصيد ولي من الناس الحصار!!/ قريب يا موتي البعيد؟ ولا مثل كذب النهار؟!

والنهار لا يكذب وكذلك الموت اذن لم يكذب الموعد، لقد كان التفكير في الموت يسكن اعماقه واعماق شعره، لذلك كان الشاعر يكتب في ٢٢ يوليو قبل اسبوعين فقط من وفاته على حسابه في تويتر:
“مع كل موت نكتشف ان الحياة خدعة، كل هذا التفكير بلا جدوى” 

مع اقتراب الموعد كان الشاعر قد تأهب تماماً للموت، وبدأت روحه تمضي بخطوة ثابتة نحو هدفها، حتى وصيته لأحبابه كان قد انجزها شعرياً منذ مدة وبالضبط منذ عام كامل في مايو ٢٠١٤:
ما اريد شيٍ من حياتي سوى احباب لا فارقت روحي جسدها يضيقون

مع اقتراب الموعد كان الشاعر قد بدأ يبرم من العمر الذي لم يعد له قيمة، والأحلام التي يصفها بانها تتحول الى سمكٍ مملح محفوظ:
طال الطريق وشابت ايامي ما عاد شيٍ ذا العمر يسوى/ موجٍ يذر الملح باحلامي وقلب بلا اي ارض او مأوى

ومع اقتراب رحلته الاخيرة، رحلة اوروبا التي كانت غلاف الحلم الحقيقي لرحلة الموت، كان يستعرض في حسابه على تويتر كتاب الصراع على سيادة اوروبا لآلن تايلور، يساعد الموت على التنكر، كان يقرأ تاريخ حروب البقعة التي سيموت فيها بالنوبة القلبية، وكرر شكره للكاتب آلن تايلور على المعلومات المهمة التي استقاها من كتابه، كانت القراءة استعداداً منه لرحلته، ألم يكن يعرف ان داخل الرحلة رحلة اخرى مخبأة؟

كان الشاعر يسمع جيداً كل الاصوات التي تطلب منه البقاء لكن كانت رغبة السفر اقوى، هكذا كان ينشر في مارس:
التراب، اللي زرعنا، الشجر، حتى المقابر/ الدروب، بيوت حارتنا، البحر، اخواننا/ كلهم في صوت واحد: لا تغادر، لا تغادر/ والمطار يهز راسه ويستفز اشواقنا.

شوق السفر كان اقوى من كل امنيات البقاء، انهُ السفر السرمدي، انه السفر الذي كان يحلم به الشاعر منذ زمن، في ٣ نوفمبر ٢٠١٤ كان يكتب:
من زمان وخاطري ارحل بعيد ولا أعود 
يا احْتياجي للرحيل 
يا حنيني للحدود

كان شعره في اكثر من موضع يعبر عن رغبته العميقة في الغياب في العودة لذلك التراب والرمل، في التحلل:
الجسد مايٍ وطين الجسد قبضة عجين/ كبرياء انسان وَحل/ يا إلهي يا إلهي/ لو مطرك يبل روحي/ واتلاشى واتلاشى واتلاشى رمل

في السابع والعشرين من يناير بدأ يكتب بصيغة التأهب للموت، متمثلاً أرواح شجر عارية من الورق:

طاح الورق أنا شجر عاري ليت السهر ينبت في عيني نور/ فكّيت لاجل الموت ازراري واخرجت روحي وخاطري مكسور!!

كان الكلام عن الشجرة لكن الشجرة هي أنا، أنا الشاعر تحلّ في روح الشجرة وتنطق بكل جلاء في انتظار الموت الذي باتت تعرف قدومه، وتعلنه بكل وضوح، لكن من اين للعقل ان يدرك ما تقوله الروح؟! وحده القلب يعرف ووحده اللاوعي يدرك.
في السابع عشر من يناير كان يسأل عن لكن بصيغة النفي، والعمر سحابة دخان، مؤكداً انه هو الموت الذي ينام في الشرشف والفراش:
حاولت املي ذا الجسد في ذا الكيان واحدد اهدافي طموحي موقفي/ وش غايتي والعمر سحب من دخان والموت كل ليله ينام بشرشفي.

وفي  ٩فبراير كان كأنما يؤكد على الموت: “الموت مسألة وقت”
بل ان الشاعر رأى نفسه حتى في ما بعد الموت، ألقى نظرة على اشعاره من العالم الآخر:
متعلقٍ ف السما شفت النجوم قبور/ والناس غيمة ظما والشعر هذا نور!!

رؤية من ما قبل الموت لما بعده، لا يقدر عليها غير الشاعر، هو الذي كان يتنبأ بأن ميلاده الجديد كامن في رحم موته، في تصبيحه على بلاده:
صباح الخير يا بلادي صباح الغيم والوادي/ سعيد اكثر من الاول وموتي فيك ميلادي!!

الملصق الاخير بتاريخ الخامس من اغسطس نشر على حسابه الانستجرامي فيديو يلقي فيه هذه الابيات على ضفاف جدول:
احتاج لك خد وعيون وغصن واشقر هاف
مثل ذيك الرموش اللي قراها اول اطماعي
واقول احتاج لك مثل الوطن لا بلت الاكتاف
لا صار السحاب احمر وصار الريح مشراعي

لكن اية حبيبة تلك التي يحتاجها الشاعر، هل يمكن ان نصدق الآن بعد كل هذا انها هي نفسها الحبيبة المرأة او أنها الحبيبة الحياة، ام اننا نرى هنا روح حبيبة أخرى جديدة هي مثل الوطن والسحاب احمر والشراع هو الريح نفسها، الا نرى هنا مشهد الرحلة الختامية، وأن هذه الحبيبة هي الرحلة الأبدية؟

قبلها كان ينشر قصائد عن طول الطريق والاحلام الشائبة، عن الحنين للحب، عن الحبيبة الملتبسة، حياته القصيرة كانت غنية بالعمل، وتلك علامة اخرى اكيدة من الروح، هكذا كانت شهادته الشعرية عن حياته واضحة: 
مرّت حياتي دون ما أدري بها
حتى القصايد في الحزن تتشابه
ماسك نجوم الليله وأرمي بها
نجوم ليل البارحه الكذّابه..!!


في ١٦ مارس ٢٠١٥ كان يكتب يحلم يتنبأ كما لو عن حادثة غامضة مقبله، كما عن استشراف مستقبلي، مشهد صغير مر مرور الصور الشعرية ولم يكن احد يدري ان ذلك المشهد لم يكن الا السيناريو الحقيقي القادم لتلك اللحظة الحرجة من النوبة القلبية ليلة وداعه:

اذكر كان من خلفي يناديني قلب خواف
امل يمسك طرف ثوبي وصوتٍ يطلب ارجاعي
واذكر كان يمسكني ظلام وشيّ ما ينشاف
انا كنت احسبه انتي واثرها ليلة وداعي!

مع مرور الوقت كان شعره يصفو ويرق ويعذب، وبالمقارنه بين الشعر المنشور على مدونته والشعر الأخير المنشور في حساباته على الانترنت في الفيس بوك مثلاً والانستجرام وتويتر نلاحظ خاصية جديدة، خفةً واضحةً وعذوبةً ورقةً متناهيتين وصفاءً مذهلاً، كان ماؤه قد ولد، كانت مراحل الهدم واليأس واعادة البناء والأمل قد تمت، التجربة قد وصلت مرحلتها الأخيرة ومن مرحلتها الأخيرة كانت تتفتق ينابيع مدهشة وصوراً شعرية مسبوكة بعناية من عانى المخاضات كلها وخاض الأودية الخطرة واجتازها قطع البحار والمفازات حتى عاد إلى بحر السويق بين ضفتي سهل الباطنة الأخضر والأزرق والباطنة نهر.

يذهب الشاعر لكن الى أين؟! اين تذهب روح الشاعر، لماذا يعودنا الموتى في أحلامنا ليقولوا لنا أنهم لم يموتوا؟! قبل يوم فقط من رحيله وفي فيينا كان الشاعر يشير الى الجنة على انغام الأغنية الشهيرة (ليالي الأنس في فيينا) كالتالي:
صباح الأنس يا فيينا سلام الأرض للجنه/ ذكرت عيون محبوبي وانا ما كنت ناسنه

هل صاروا في الجنة الآن؟
الم يكن الشاعر نفسه هو القائل:
ما ورا هذي الحياه الا حياه ما تساوي ذي الحياة ف أي شي!!

أشعر اننا سنجد ويجد القراء في معارض الكتب القريبة القادمة ديوان حمد الخروصي المطبوع، وكتابه النقدي في الشعر الشعبي الذي كان على وشك النشر، لأن النسيان لا يستطيع أن يجرف شاعراً وصل الى تلك المرتقيات من العذوبة والرقة والصدق والشفافية، صحيح أن حياته انقضت لكن حياة كلماته مستمرة وتبدأ الآن.
يرحل الشاعر لكنه كان هنا عاش حالماً يتابع اسراب المعاني وظباء الشعر الجافلة ونوقاً اسطورية قديمة محملة بمناديس الكلمات، سافر الى احلامه، تابع غاياته، وحين بلغ النهاية سقط قلبه من التعب، ودلف في الغياب البهي والفقد فبكته عيون البلاد، كما نحزن ونبكي اصواتنا الشخصية كما لو اننا نصبح بُكماً يصير غياب الشاعر معادلاً لموت صوتنا.
كل الأحبة يتجمعون حول زهرة القصائد وينابيع الشعر الباقية لأنها علامة اخيرة تحيينا بابتسامة الشاعر.