السبت، 30 نوفمبر 2013

الإمام الأخير



 يغمضُ الإمامُ عينيه خارج السلك، والتحفة، والنهضة، واللؤلؤ الرطب.. خارجَ الكتب.

يغمضُ عينيه كنهاية هدبٍ من عمامةٍ هائلة منسوجة بأيدي العلماء، متروكة لمصيرها خارج منارات المساجد والقباب.

نهاية سطر رمزي، في سطور دخلها آلاف الأشخاص، وخرجوا منها مغمضي الأعين..
ينتهي السطر الرمزي خارج البلاد منفياً من ظلال الضواحي الخضراء.

الحياة التي تنتهي في العام التاسع مقذوفة من الجبل الأخضر مروراً بالربع الخالي لتسكن على ضفاف  الخليج في العام التاسع والخمسين.

تاريخُ سيوفٍ تقرأهُ البنادق على القذائف بعدَ موت الأجساد، تغيرُ عليه طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني لكنهُ ينجو ليسكن في طبعة جوازِ السفر والصور التذكارية والوثائق وكتب التاريخ.

بعد حين يزور الجفاف والخصب، بالتناوب كالعادة، بلد الضواحي والواحات، في البحر تتردد أوزان قصيدة تنتهي أبياتها بالرويِّ المرنان..

خنجرٌ يستكينُ في غمده، وبندقية في جرابها، طقطقة تنهي حشرجة التاريخ، بعد زمن كافٍ يخرجُ من حدود النصر والهزيمة، والمعركة، ليدخل في صلب بلاد المعنى.

أسماءٌ أيتها الدماء، أسماءٌ أيتها الأرواح، أسماء تخرج من عباءتها البيضاء لتسافر في الهواء وتمحيها الأسماء الجديدة.

بعد زمن الحروب والهجرات وجوازات السفر المزدوجة ومجلس جمعة، يذبل وجهٌ في الدمام ببطء..

نبلغُ الدمّام فنبلغُ السقف، تنكسرُ دونهُ الأجنحة وتعود إلى أعشاشها الطينية تحت أغصان الأشجار.

يغمضُ الإمام عينيه أخيراً خارج الوطن، كما أغمض السلطانُ قبله عينيه بعيداً عن الهواء، يغمضان عينيهما بعيداً خارج الزمن، وتعود الأحداثُ العظيمة لتصير صوتاً.. رقماً.. وكلمة.

يغمضُ الإمام عينيه في المنفى على التاريخ وهو يفلتُ من دفتي الكتاب، من السلك، والتحفة، والنهضة، واللؤلؤ الرطب، والمنهج الدراسي.

على الجبل الأخضر كان تفجير الألغام في العام التاسع يذاكرُ درس قذائف العام التاسع والخمسين، الهواء يهبّ مجدداً من البحر البعيد ومن الصحراء البعيدة في نفس الوقت، على بيوت طين لها أساطير الحوادث التاريخية المتردمة.

في النسيان جبلٌ أخضر يرسلُ الناس لمصائرهم، له حكمة الحجارة الخالدة وقوة الباقي على الفاني.

تاريخٌ يلفظ أنفاسهُ في زمن لاهثٍ ومستعجلٍ ثاني أيام العيد، يموتُ الإمام الأخير بين التهاني والتعازي، يدلفُ قبره بهدوء دون أية ضجةٍ، يرقد مودعاً الحياة القديمة بين أيدي الزمن المعاصر.

إطباقة الجفن الأخيرة عمامة متأخرة حفظت نفسها خارج الزمن، انتظرت دقة التوقيت وحين جاء زمنها ولجت فيه.

اكتوبر 2009

الصورة لماير كاكاد  by: Mayur Kakade




الأحد، 17 نوفمبر 2013

بلاد

بلاد
بلادٌ من قلوب، أرضٌ شُقّت أنهارها بالسواعد، وبحرٌ من ماء وتراب نضاحان بالخير العميم، بلاد من قلوب الأرض، تهواها الأفئدة، ومن جريانِ دمها تستمد قلوبنا الدماء؛ ما يضيرها يضير القلوب، وما يبهجها يبهج الروح.
بلاد جيولوجية، زينتها صخرٌ أحفوري، جاء بُناتها فزيّنوها بالاخضرار العالي، فاحتضنتهم؛ تسوءها الشرور وتتبارك فيها الخيرات؛ لها من السماء روحها، ومن البحار والمحيطات جيرتها، ومن الجبال تيجانها المعممة، ومن الاخضرار ثيابٌ دائمة، ومن الوديان طهارات، ومن الرمل فِراش؛ تهَبُ ترابها بسخاءٍ للشمس والقمر، وتنذرنا جميعاً للنور.
ضمائرنا مخلوقة من طينها، وأرواحنا من أنسامها، وأمشاجنا من ماء خيرانها وبِرَكِها، وأذهاننا من صباحاتها، وخلايانا الدموية من شِعابها المرجانية، ومن طحالبِ عيون الجبال، جلودنا من أعشابها البرية، رئاتنا من رملها الذهبي، أكبادنا من حجارتها، ولذلك تعرفُ فينا العناد، أما صمتنا فمن مدرسة صمتِ جبالها الوقورة.
تعلمنا الغناء والموسيقى من طيورها المقيمة والزائرة، والرقص من كائناتها، والركض من حيواناتها البرية، وتعلمنا ركوب البحر من سلاحفها ودلافينها وأسماكها؛ عظمائنا صنعُ أياديها، وهي البلاد التي علمتنا حُب الأرض، كل الأرض، وعلمتنا الانتماء للكوكب، والانتساب للحياة.
بلاد تمدحُ الخير وتربي الأمل وتبثُّ حُب النعمة الطاهرة، وتقديرها واحترامها؛ وبلاد تعرف في أهلها حكمة الإصغاء لما يعلمهُ الدهر للناس، وما توحيهِ الأيام للبشر؛ وكلُّ كبيرٍ منا صغيرٌ أمام أصغر جبالها، وأضيق شطآنها، وكل واسعٍ ضيقٌ أمام أصغر سيوحها وساحاتها، بلاد تلهمنا وتوحي لنا وتعلمنا، بلاد تعلمنا فيها السحر حين اعترتنا رعشة الجمال.
بلاد لها سلطان الأرواح علينا، تستوجبُ منا الإخلاص لا النفاق، وتستحق حب الذات فيها لا بعيداً عنها، هذا ونحن نرتع كلنا في خيراتها لا في خيراتٍ خارجةٍ عنها، ولا زالت شامخةً وثرية بالطاقات العظيمة التي تطلب الإخلاص، وها قد حان أن نتعلم أن الثروة النفطية لا تساوي شيئاً في حساب ثروات الأوطان الكلية إلا كما تساوي فلوس النحاس أمام دنانير الذهب، وهي بلاد تعلمنا بهذه الطريقة درس الثروات، لأن الناس هم ثروة الثروات، نحن أبناء هذا التراب وجواهر أرواحنا أغلى ما فيه.
بلاد كهذه تستحق الإخلاص في الضمائر والأيدي النظيفة، وتستحق الألسن الصادقة والقلوب المؤمنة، تستحق نبذ أخلاق النفاق والكذب، نبذ السوء والفساد،تستحق طهارة الإخلاص وصدقه، تستحق تعاليم الزهد والتواضع المتوارثة منها في جينات الأجيال، تستحق القدم الحافية التي تذرع الأرض.
هذه بلاد تزهر صورها في الضمائر الحية، وتموت في الضمائر المتعفنة الحبيسة في سجون الصدور، بلاد تستحق كل قطرة من عرق الشعب الصادقة؛ بلاد تفدّى بالدماء في الحروب تفدى في السلم بالعرق الناضح في البناء لا في الخراب، في العطاء لا في الكنز، في بث السعادة في الوجوه الحزينة لا في توزيع الشقاء.
بلاد هي قطعةٌ من ذاتي، أراها نوراً في أزمنة الظلام، بلاد لا نستطيع مهما حاولنا جميعاً أن نختصرها في واحدٍ، مهما كان حجم الواحد، لأنها بلاد تزدهر بالتنوع والاختلاف، وتتفاعل بالمركبات الكيميائية.
بلاد مهما بلغت فيها من الصدق تبقى أصدق مني، كلما فتحت فيها عيني صباحاً أرى الشمس تزورها كالعاشقة الحيية، وهي الشمس أم الأرض.
بلاد لجبالها عطور، ولبحارها زهور، ولترابها ثيابٌ من ماء ونبات ولإنسانها أثر فوق الجبال من نور.
بلاد من خرافة وأسطورة لكنهما قائمتان في واقعها اليومي الحي ومشيدان في حيويتها الجياشة، بلاد من جمالٍ وسحر، يتعلم فيها السحرة فن السحر من شكل الجبال؛ بلاد لها غمراتٌ ولها أيدٍ تصعدُ بالخير وتنسف الشر؛ تنطق فيها الآيات، وتتكلم الإشارات، يعرفُ فيها العلماءُ الأقدار المستقبلية بحساب الرمل؛ بلاد كهذه تستحقُّ كأس المحبة المترع، ودماء الإبداع في كل فن ولونٍ وقول ومعرفة.
بلاد النخلة والفلج، بلاد الحوت والسلحفاة والدلفين والسفينة، بلاد الخيل والمهاة والقنفذ وأسماك الربع الخالي، بلاد اللبان والبخور المعتق، بلاد اللغات الأمومية، بلاد النارجيل والموز والليمون، بلاد ماء الورد والكيذا، بلاد النسيج والثياب الملونة، بلاد النحاس والمعادن والذهب، بلاد الكائنات والأشياء منذ زمن غابرٍ قبل أن تصير ملاذنا وبلادنا، بلاد أقدم النباتات على وجه الأرض.
وطن لا نرضى له بأقل مما للأوطان، لأنه بلاد تعلمنا الحُب بكل الطرق، وهو بلاد تستحث أكبر حبنا، أكبر من الحب اللفظي، وأكثر من الحب العملي، تستحث الحُب الروحي كله.
مثل هذا الجمال يستحق أن يخلّص من الأيدي التي تسيء إليه ويطمئن في الأيدي العاشقة المحبة، جمالٌ يستحق أن يتخلص من الطماعين ذوي الروائح الفاسدة وأخلاق النفاق والحسد والجشع، يستحق طهارة الأبدان والأنفس، والأرواح والخطى، يستحق أن يتفاضل الناس فيه بالأعمال والمخابر لا بالأشكال والمظاهر.
بلاد أعرفها من رائحة الهواء، لا من ختم جواز السفر، وليس من مساحة التراب المحسوب بالكيلومترات بل من السنوات الضوئية في المعنى الغائر في الروح والنفس، أرضٌ علمتني أن الأرض كلها بلادي، وأني ابنها، تستحق أن أحلم بها نقية كالماء، صافيةً كالهواء، تهذّبُ الإنسان وتصعد بروحه، تستحق أن تكون وطناً للإنسان يكرمه ولا يضيعه ولا يهينه ولا يضيق عليه ولا يشرده. فأحلم بها بلاداً من قلوب.
بلادٌ كانت لي سُرة الأرض. ومسرتها. أفراحها التي استقيتها، وتعبها الذي أصغيت له، جمالها الذي أكرمتني به، والوجع الذي أخفته عني ولكنني اكتشفته، الروعة التي أسرتني بها، والعلل التي سترتها عني ولكني حدست بها.

ولأجل ذلك، لأجل جمالها وفتنتها، ورعها ورقتها، سلامها العذب وصوتها الدافئ، هي المتحولة من أم لحبيبة لصديقة لبلاد من ملايين البشر، وملايين الكائنات، والأمكنة، والأزمنة، وأشكال الحياة التي لا تتوقف، بل تنضج وتتوالد، لكل ذلك الحسن الحيوي ألف سلام وتحية عذبة وأسعد الأمنيات والآمال المشرقة المضيئة. بالحب.