السبت، 28 مارس 2015

سجن الكتابة قراءة في كتاب ميثاق الخلاص لمعاوية الرواحي


سجن الكتابة*
قراءة في كتاب ميثاق الخلاص
شجارٌ مع بؤبؤ واسع
ط1 2015 الانتشار العربي



تعددت الكتابة عن تجربة السجن، أو أدب السجن في أدبنا العماني المعاصر، مع أن تجارب السجن في حد ذاتها صغيرة زمنياً وضيقة مقارنة بتجارب أدب السجون الطويلة للكتاب عالمياً، لكنها شديدة التكثيف وإن كانت لا تتجاوز مثلاً نصف سنة كالتجربة التي وثقها سعيد الهاشمي في كتابه (ياسمين على الغياب رسائل من زنزانة انفرادية) المنشور في 2013، أو هنا مع اختلاف التجربة والتقنية والناتج في تجربة السجن والحجز لعشرة أيام التي وثقها معاوية الرواحي في كتابه هذا ميثاق الخلاص شجار مع بؤبؤ واسع. المنشور هذا العام والذي توافق صدوره مع تغييب الكاتب في سجون السلطات الإماراتية هذه المرة، لذلك فهو كتاب مناسب للاستعادة، بل ان صدوره في هذه اللحظة يقدم نفسه بهذه الصورة لا غيرها..
أولاً يسجن الكاتب بسبب مقاله الشهير ميثاق الخلاص الذي كان أشبه باعتراف بكل ما ظنه الكاتب أسرار اجتماعية ودينية وسياسية، لكن بسبب حاجته للعناية الطبية والنفسية يتحول الى الحجز في مستشفى ابن سينا للطب النفسي وهناك تمده ممرضة طيبة بالأقلام والأوراق ليكتب، وهو الفعل الذي ينتج لنا هذا الكتاب بهذا العنوان: ميثاق الخلاص.
نجد منذ البداية تعبيراً واضحاً عن تلك الرمزية الوثيقة بين الكتابة والسجن، حتى عما هو خفيّ في تلك العلاقة وغير مفتضح منها مثلما يشير لنا معاوية هنا في كتابه عن كون الكتابة نفسها نوعاً من السجن: يا إلهي لماذا أكتب؟ كنت احسب أنني أكتب لأكون حراً. الكتابة سجني!! ص18.

أداة الكتابة
في كتاب ميثاق الخلاص هنا تجربة من نوع آخر جديدة على الكاتب نفسه، هي أن الكاتب كان قد اعتاد الكتابة على لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر، على الشاشة المقابلة، والإشعاع الكهربائي للضوء، وربما حرارة سطح لوحة المفاتيح نفسها، لكنه يضطر مرغماً للتخلي عن ذلك كله إلى القلم والورقة، وما تنتجه التجربة ليس سيئاً على الإطلاق بل لربما هو أجود.
الكتابة بالجهاز مختلفة الإيقاع عن القلم، على الورقة، ليس فقط في مشكلة عدم قدرة الكاتب نفسه على فك رموز وشفرة بعض الكلمات لاحقاً مثلما يوضح كتاب ميثاق الخلاص حيث تتكرر بين قوسين عبارة (لم أفهم خطي) أو (الخط غير واضح) وهي تقنية وسع من استخداماتها الكاتب أحياناً كثيرة كورقة التين لتغطية سوءة عبارة أو كلمة لا يريد ذكرها، كما يتضح ذلك من خلال السياق للقارئ، وأحياناً أخرى كانت تأتي بالفعل في موقع منطمس المعنى أو فارغ..
إذن ليست مشكلة إعادة فك الخط هي وحدها الاختلاف بين الجهاز كأداة كتابة، والقلم، بل أيضاً السرعة وهو ما يشير إليه الكاتب في أكثر من موضع، سواءً بالشكوى من بطء القلم: القلم بطيء وممل وقد اعتدت الكتابة بتسع أصابع/ أقلام. ص12، وما يشير إليه في موضع آخر: على غير العادة أكتب ببطء شديد، على غير العادة أكتب لقتل الوقت لا لقتل النفس هذه المرة. ص38 أو بالشوق للوحة المفاتيح: أشتاق كثيراً للوحة المفاتيح. لم أعتد الكتابة بهذا البطء. القلم بطيء للغاية ولا يكفي. أحتاج إلى عشرة أقلام لأطارد تسارع الأفكار في رأسي لأكتب لك. ماذا لو لم أستطع التوقف؟ ماذا لو استمر الأمر إلى الأبد؟ ص53 إيقاع الكتابة الزمني مسألة أخرى مهمة، يمكن أن نضيف إليها أن الحروف كلها تتشابه على الأصابع في لوحة المفاتيح اذ كلها مجرد ضغطات، بعكس القلم الذي يرقص رقصة مختلفة مع كل حرف.
لكن البطء القلميّ ينضج الكتابة وهكذا سنرى القلم نفسه مع تقدم الكتابة يتحول إلى أداة خلاص، ومن كونه أداة كتابة يتحول إلى أداة فهم: كنت بحاجة إلى هذا القلم كي أفهم، والآن قد فهمت, الآن فهمت، كلنا ضعفاء، واللعبة تنتصر. ص20  هكذا تتكاثر مهام القلم من أداة كتابة لأداة ذكرى: أتذكر وأنا أمسك هذا القلم الأزرق كل الأقلام الحمراء التي صنعت مصيري ص38 وفي فضاء الحجز الخالي من أي أشياء أخرى، في غرفة الحجز الخاوية من الحياة، غرفة السجن والتجميد، يتحول القلم والورقة إلى تعزية وتسلية وأدوات تغيير: وجود ورقة وقلم غير كل شيء دفعة واحدة، إضافة مادية صغيرة جعلتني أكثر تقبلاً لما حولي. ص39 هكذا أصبح البطيء الممل مفيداً أكثر، وواضحاً ومفهوماً، وذلك البطء أعطى معنىً أعمق لفعل الكتابة نفسه.

متاهة الكتابة:
يستعيد الكاتب بداية تجربته الكتابية، ليست تلك الطفولية البسيطة، بل المصممة: أتذكر وأقارن الآن أيام الكتابة الأولى، كنت في مصر عندما أصبح الأمر هواية ثم هوساً ثم لعنة. ص43 تحولت الكتابة إلى لعنة نتج عن آثارها وجود الكاتب في السجن وحجز المستشفى بسبب كتابته..
لكن السبب في السَّجن وهو الكتابة تتحول في السِّجن إلى طريقة تفكير، ومن سجن إلى أجنحة أو نهر يقود الكاتب إلى الذوبان فيه، يحتوي كامل الجسد الشائك حتى النهاية، ويشبع فكرة الجنة نفسها: هل من الممكن أن أجد طريقة أخرى أفكر بها هنا؟ لا شيء إلا الكتابة، هذا السفر العشوائي مع الكلمات والحروف, السفر القديم واللذيذ والأهم، هذا التوتر اللغوي الأزلي, التوتر البدائي الذي يجعل هذه الجدران أقل حلكة وشحوباً.. لماذا أشعر أني في الجنة؟ وأنني فوق استطاعتي (لم أفهم هذه الجملة، لكنني وجدتها مكتوبة هكذا) فوق ذلك أريد البقاء هنا إلى لحظة الموت، هنا إلى الأبد. يبدو الخبر مفزعاً. ص42
في التجربة يستكشف الكاتب نفسه وينكشف لنفسه: لقد انكسر الكاتب بداخلي إلى الأبد. ص14 وهذا ما يجعل الكاتب يطلق وعوداً بعينها، من أخطرها التوقف عن الكتابة: أريد أن أقول كل شيء ولا أريد أن أقول شيئاً. أريد أن أحب مرة أخرى, عندما أخرج سأتفرغ للحب. سأترك الكتابة نهائياً ص20
مع ذلك يتكرر الوعد، أو تبكيت الضمير، بشأن الكتابة: أشعر أنني مخطئ في فكرتي الرئيسية عن الكتابة. أنا مخطئ نعم أنا مخطئ يجب ألا أكتب أبداً, يجب أن أعيش. ص21 أو ص59: لا أريد أن أكتب أريد أن أفرح وأعيش.
هناك في اللحظة نفسها، في الحجز والسجن، والتي هي لحظة كشف ذاتية صافية، يتم استعادة الماضي والحاضر كفيلم أمام ناقد فذ: لم أعد أنا، كان هذا آخر عهدي بي, من أنا؟ لست أكثر من سجين داخل سجين وأريد أن أهرب بأسرع وقت ممكن. ص16، هنا تتضاءل صورة حياة الكاتب كلها إلى مجرد ثرثرة مع الورق: لم أفعل شيئاً طوال هذه السنين. إلا هذا. ما أفعله الآن. أجلس مع ورقة وأثرثر. ص21
تكبر فكرة التوقف عن الكتابة بالتدريج، مع مرور الأوراق التي هي ساعة الكتابة، وبعد شوط الكتابة المقطوع بركضة القلم: هل أكتب وصيتي الآن؟ لا أعرف ولكنني أشعر أنني أكتب للمرة الأخيرة، ولماذا أشعر بذلك لا أعرف. ص31
في السجن والحجز يغدو جلياً غرض المرء من الكتابة في حياته: كنت بحاجة إلى الكتابة لأفهم الذي أنا فيه. ما زلت غير قادر على الفهم. ص31. ويسيطر الخوف أكثر ويتحول المرء أكثر إلى منطقة الشك، حيث كل شيء قابل للشك، وللتردد: أخاف أن تنتهي الأوراق وأخاف أن تمتلئ ص31 وحيث الخوف ووضوح الحاجة جلي بشكل بسيط، حيث يوثق الكاتب حاجته: بحاجة إلى إنسان أكتب له ص37
ويتعرف المرء بعيش تجربة السجن إلى السجون الأخرى الشبيهة التي كان فيها، بالسجن الواقعي يتعرف على السجون الرمزية ويغدو واضحاً سجن اللغة مثلاً: أقول في نفسي لماذا؟ لا أستطيع أن أحب بلغتي؟ أنا سجين لغتي وأريد أن أكون حراً. ص52 يغدو أيضاً جلياً ما يسميه الكاتب معسكر الكتابة حيث حبس نفسه لعشرين عاماً: الحياة التي احبس نفسي فيها في معسكري الكتابي يجب أن تعاش وتمارس. ص62.  ثم تعود الكتابة لتصبح المأثرة الوحيدة فيعود بالعكس لحب لغته: ليس لدي شيء في هذا العالم سوى اللغة وهذه لغتي التي أعشقها اعشق لغتي بشدة. 53
كانت الكتابة فعل مجازفة: أكتب وأغامر ص51 لكنها تحولت لسجن رمزي امتنع الكاتب بالمكوث فيه من الحياة نفسها، وهي هنا سبب سجن، وما كان رغبة في التحرر انقلب لسجن، وحادثة كتابة مقالة ميثاق الخلاص تحولت لكتابة لميثاق السجن: كنت بعد كتابتي للمقال قد شعرت بالخلاص النهائي. الخلاص من الذاكرة والماضي ومن كل الأسرار. كم هو مضحكٌ أن تكتب ميثاق الخلاص لتكون حراً وينتهي بك المطاف لتعيش أيام حريتك الأولى في الحبس!! ص64
مع الوقت يقع الكاتب في الحب، فيوجه رسائل غرامية، ويلح في رسالة طلب موعد من الحبيبة الافتراضية التي يلوح من سياق القراءة أنها نفس الممرضة التي جلبت الأوراق والأقلام ومكنته من الكتابة: لا أريد أقلاماً وأوراقاً، أريد وجهك السماوي ص68 وللحبيبة فقط يعترف لها بسبب الكتابة: هل أعترف لك لماذا كتبت ذلك المقال؟ كلهم يبحثون عن السبب وقد عرفته قبل ساعة واحدة فقط، كتبته كي لا أكون شبحاً بعد اليوم. ص74 إذن هل التحول من الحالة الشبحية، الافتراضية إلى جسد فيزيائي ملموس ومؤثر ومتأثر هو الدافع الكتابي؟!
في ميثاق الخلاص تشارك كل الذوات الفاعلة والحقيقية والمذكورة بالإسم أو الرمز في نفس الفعل الأساسي: الذي هو الكتابة، وتتفاعل معه، مثلما أن الكتابة هي المطلوب الوحيد في كل الرسائل الموجهة إلى الأصدقاء هو الفعل نفسه: اكتبوا اكتبوا، العالم يستحق الكتابة والفرح، هذا ما تعلمته، الفرح ونشره، الحب والكلمات. ص67 وهي الوصية: الكلمات هي التي تبقى لنا. ص67
تتحول تجربة السجن إلى تجربة كتابية موثقة في ميثاق الخلاص، تلك التجربة التي يوثق الكاتب منذ المقدمة تمجيدها بقوله المجد الكتابة، تصبح هي السبب في تحولات الكاتب، في معاناته، وفي رفضه، وفي قدره، وفي موقعه، هي نفسها سجن، وفي نفس الوقت سبيل تحرر، وخلاص وفهم واستيعاب ورفيقة قدر، وهنا تعود الكتابة لتحرر نفسها من الأداتية، من القلم واللوحة نحو كينونتها هي، السابقة على الأداة، كحالة داخلية، تسعى لتوجد من خلال الكلمات، وتولد وتبقى كأثر، والتي يتضح إلى أي درجة بإمكانها أن تحول الكاتب نفسه، إلى أداة أخرى، إلى قلم وإلى لوحة مفاتيح، إلى سجينها اللغوي، أو إلى بطلها المحرر. تلوح خلف كل العمل الذي أنتجته، وسخرت له كل شيء، كما لو أنها وحش خفيّ متنكر، أو طاقة تحرر، تؤجج حرارتها بكل شيء لتعاود الانطلاق. تسجن الكاتب رمزياً وفعلياً، ثم تحرره، كأنها نوع من المطهر أو جسر الصراط المؤدي للجنة والمار فوق نار جهنم.



*كتبت هذه المادة لبرنامج هواء الكتابة الذي يعده الشاعر صالح العامري.. لكن الحلقة لم تبث.. لذا لزم التنويه!

الثلاثاء، 17 مارس 2015

من الساحر؟

من الساحر؟
عمل الفنان موسى عمر


جلس الرواة الثلاثة في مجلس الشيخ علي الناسخ، المخطوطات مصفوفة فوق بعضها البعض على الزوايا، والمحابر والأقلام قرب الشيخ وبين يديه كتاب يقوم بنسخه، لكنه وضع الورقة التي ينسخ عليها جانباً وهو يستمع باهتمام شديد إلى شرح الرواة لعقدتهم مع القصة الغريبة؛ كانت تلك القصة كباقي القصص التي يحفظونها ويروونها عن الخير والشر، لكن فيها سرٌّ غامض يجعلُ كل واحد منهم يرى فيها شيئا مختلفاًً، وكلما أراد أحدهم أن يرويها اصطدم بذلك الالتباس الغريب، وهذه الليلة جاء هؤلاء الثلاثة إلى الشيخ علي وهو قارئ الكتب وناسخها الخبير كي يعينهم على فك عقدة القصة.
تقول القصة:
عاشت أم مع ابنها على أطراف البلدة، وكان ذلك الابن هو همها الوحيد في هذا العالم حتى أنها اختارت العيش بعيداً من خوفها عليه، وأغدقت حنانها باذلة كل رعايتها وحبها وإخلاصها له، وكانت الحياة تعني لها أن تعيش لترى ابنها الوحيد يكبر، ومع مرور الأعوام كان حب الأم وإخلاصها يكبران مع ابنها العزيز الغالي؛ وذات يوم بعد بلغ الفتى عمر الشباب وقع في حب فتاة ساحرة الجمال، لم يطق صبراً على الابتعاد عنها منذ أن رآها، ظل الفتى يلاحق الفتاة الجميلة أينما ذهبت، لا يحرك عينيه عنها بل يتأملها غارقاً في سحر جمالها الجذاب، ضحكت الفتاة من هذا العاشق الغر، وكلما ضحكت عليه كان الفتى يشتعل حباً، ظل الفتى يتبع الفتاة لا يبعده زجرها ولا تهديداتها المغموسة بجمالها، سألت الفتاة الشاب: هل تظن أنني سأصدق حبك لي لأنك تلاحقني طوال الوقت؟  إذا كنت تحبني حقاً فأثبت لي حبك إثباتاً صادقاً. أجابها الشاب بكل تأكيد وثقة: أحبك أكثر من الحياة وما فيها، ولا أستطيع السير بعيداً عنك، وكي تتأكدي من حبي الصادق فأطلبي مني ما تشتهين. فقالت له الفتاة: اذا كنت تحبني حقا فهات لي قلب أمك؟!
انطلق الشاب إلى بيتهم وهناك وجد أمه قلقة متلهفة عليه، ودون مقدمات طويلة قال الفتى لأمه: أمي، لقد أحببت فتاة ساحرة الجمال لكنها لا تصدق حبي إلا إذا جئتها بقلبك، وها أنا قد جئت إليك لآخذ قلبك وأقدمه لها دليلاً على حبي. وبكل وداعة وطيبة قالت الأم: أنا و قلبي لك يا بني، إنما أعيش بقلبي من أجلك يا نور عيني، فخذه متى تريد واعطه من تحب.
قتل الابن أمه وانتزع قلبها، وانطلق مسرعاً نحو حبيبته بلهفة من حصل على هدفه المنشود وبلغ غايته، ومن شدة استعجاله تعثر بحجر في الطريق فوقع وسقط القلب من يده. قام الفتى ونفض ثيابه وتناول القلب ونفضه من التراب فقال القلب وهو بين يديه (سلامتك يا بني). أكمل الفتى طريقه حتى وصل إلى معشوقته مقدماً لها قلب أمه، وحين وقع نظر الفتاة الجميلة على القلب بين يدي الفتى وهو يقدمه لها أصابتها نوبة ذعر شديد وصدمة جعلتها تقف مكانها دون أن تتحرك ثم ولت تهيم وقد اختلط عقلها.
تلك هي القصة.

الفنان موسى عمر

هنا قال الراوي الأول: هذه القصة بدايتها عادية كأية قصة أخرى عن أم وحيدة وابنها إلى أن تظهر الفتاة الساحرة، وهي ليست فتاة عادية وطبيعية كبقية الفتيات وإنما ساحرة يأمرها قلبها أن تحطم قلوب الناس بسحرها، ولا يمكن لسحر جمالها الطبيعي أن يجعلها تطلب قلب الأم ولكنه سحرها الأسود الذي ألقته على الفتى الغر، لذلك سحرت قلب الشاب وجعلتهُ مُغيّباً لا يعي ولا يدرك ما يفعل، فيتبعها ويتوله بحبها وحين أحكمت سحرها عليه أرادت أن تقتلعه من جذوره كي تبقيه خادماً تحت يدها طوال العمر، وهناك طلبت منه أن يأتيها بقلب أمه، ولو لم يكن الفتى مسحوراً لكان تراجع أمام طلبها الغريب، لكن السحر جعله يرى طلبها طبيعياً، وهكذا لم يشعر بأي غرابة وظن أنه يحبها وإنما هو مسحور بيد ساحرة تريد أن تغذي سحرها بأكل الأم المقتولة بيد ابنها ولا شيء يمنعها حين تمتلك القلب؛ والفتى الأحمق صار ألعوبة بيدها الساحرة التي سحرت الابن وأمه.
قال الراوي الثاني: استمعوا إلي، علمتنا القصص أن الساحر كي يكون ساحراً عليه أن يضحي بأعز شيء يحبه في هذا العالم، لذلك يقتل السحرة أبنائهم، كي تتحطم قلوبهم أمام السحر، وكي لا يحبوا شيئاً أكثر من حبهم لذاتهم، فالساحر كي يكون ساحراً كبيراً عليه أن يحب ذاته أكثر من أي شيء آخر، وفي هذه القصة ليست الفتاة وحدها الساحرة ولو كانت كذلك فما الذي يجعلها تذعر حين يأتيها طلبها؟ دققو معي قليلاً في هذه الأم التي عاشت مع ابنها وربته وحافظت عليه: لماذا تهرب بابنها عن الناس؟ ولماذا لم تتراجع حين جاء ابنها يطلب قلبها؟ ألم تشعر بأن هذا الطلب الغريب لا يطلبه إلا مسحور؟ إن الأم لم يمنعها شيء من أن ترى ذلك كله إلا إن كانت هي نفسها ساحرة، ساحرة منعها حبها الشديد لابنها الوحيد من أن تسحره كما يفترض بالسحرة، ولأنها تعرف العواقب حاولت الهرب بابنها بعيداً عن الناس، وعن بقية السحرة الذين قد يفجعونها به، ولأنها ساحرة فهي تعلم أنها ستموت بيد نفس الشخص الذي ضحت لأجله، لذلك لم تتفاجأ حين جاء ابنها لينزع منها قلبها بل أذعنت وتخلت بكل سهولة عن قلبها، ولو كانت أما طبيعية كبقية الأمهات لما فعلت ذلك ولكانت انتبهت إلى ابنها المسحور، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس، لأنها تعلم أنه لا يمكنها أن تستمر في  السحر محتفظة بابنها وأن تظل محافظة على قلبها غير متحطم؛ لقد خرقت الأم الساحرة قانون السحر حتى ارتد السحر على الساحر؛ اسمعوا إلى قلبها يتحدث بعد أن ماتت ذلك لأنها جمعت سحرها في قلبها الذي سيقدمه ابنها لحبيبته، كي تسحر به الفتاة التي تظن أنها هي الساحرة، ولذلك حدث ما حدث للفتاة حينما وقعت عيناها على القلب الساحر.
قال الراوي الثالث: ربما كنتما محقين لكن لا تستعجلوا في الحكم، انظروا إلى هذه الشاب الذي تنعتونه بالحماقة وبأنه مسحور، لقد قتل أعز الناس إليه من أجل نفسه، ثم انظروا ما الذي يريده من الفتاة التي تقولون أنها سحرته: إنه يريد أن يمتلك قلبها؛ لأن من يريد الحب لا يريد الحب فقط بل يريد أن يمتلك القلب؛ إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي نفذ كل ما تتطلبه قواعد السحر، هذا الفتى هو الذي سحرَ أمه وجعلها تعيش خادمة لحياته هو، وأمه التي ضحت بحياتها لم تكن مختارة بل كانت مسحورة، إن الفتى هو الساحر الذي يريد أن يسحر الجميع ليعيشوا من أجله، وأمه ليست أمه الحقيقية فالساحر لا يعترف بأمه، لقد عاملها كإحدى خادماته، وحين حصل على خادمة جميلة جديدة تخدمه في شبابه ضحى بخادمته العجوز التي خدمته في طفولته وصباه بكل سهولة، وعندما جاء إلى أمه كان يعلم بسبب سحره أنها لا تستطيع أن ترد له طلباً، وأحضر القلب إلى الفتاة كي يسحرها ويمتلكها به، وهكذا سحر عقلها وقلبها وجعلها تهيم على وجهها، لقد وقع سحره عليها حتى جعلها مُغيبة من السحر القوي الذي حل عليها، ذلك هو السحر الذي حطم سحر الجميع، سحر الفتاة والأم.
إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي انتصر على الساحرتين في نهاية القصة، هو الذي رد سحر الفتاة، وضحى بأعز إنسان عنده من أجل السحر، وهكذا كان هو الفائز الأكبر في هذه القصة لأنه سحر الاثنتين من أجل ذاته.
أكمل الراوي الثالث كلامه وكانت أضواء القنديل تتراقص فوقهم جميعاً والليل قد ولى أكثره والشيخ علي الناسخ ينصت إلى الرواة باهتمام، وبعد أن أتم كل راوٍ منهم رأيه في القصة قال الشيخ علي مبتسماً:
هذه حقاً قصة غريبة، لكن أتعلمون ماذا لو لم تكن قصة عن السحرة كما تظنون، لا تخدعكم الظواهر الخارجية واذهبوا إلى المعنى العميق، إني حين أبحث عن معنى القصة الحقيقي أراها قصة وضعتها ربما أمٌ هجرها ابنها الوحيد وسافر عنها إلى السواحل البعيدة مع زوجته، لأن معنى القصة يتحدث عن الزوجات اللواتي يخطفن الأبناء من أحضان أمهاتهم باسم الحب. وعن قلوب الأمهات الوحيدات المرمية على التراب. وأرى فيها إشارة للزوجات بما سيصيب قلوبهن يوماً كما أصاب الأمهات اللواتي تحطمت قلوبهن بيد الأبناء.
قال الشيخ ذلك وصمت برهة، ثم تناول الورقة التي كانت في يده مكملاً النسخ في هدوء شديد، ظل الرواة الثلاثة مكانهم ينظرون إليه وقد علت وجوههم مسحة التفكير العميق، ثم استأذنوه ومضوا في ظلام الليل واجمين.

الاثنين، 16 مارس 2015

لماذا تكتب؟*

لماذا تكتب؟

اللوحة للفنان محمد نظام


سؤال خطر، متفجر، سمعتُ وقرأتُ عن شعراء وكتاب توقفوا عن الكتابة، ربما بسبب هذا السؤال، ليس لأنه فقط من وزن لماذا تصنع الفن؟ بل أيضاً لأنه على نفس مستوى أسئلة لماذا نحيا؟ لماذا نعيش؟ لماذا نحب؟
قبضة هذا السؤال، إذا نظرنا إليه على أنه سؤال نفعي، تحاول أن تطبق على رقبة القلم، تريد أن تكسِر الأصابع.
الكتابة مزيج من الحتمية القدرية والاختيار الثابت للإرادة، ذلك الاختيار الذي يبدو كأنه نوع من التفاهم النفسي مع السكن الضروري الجبري في وادي الكتابة.
أكتب لأن الكتابة بدت لي دوماً ومنذ الصغر طريقة سحرية، نوعاً من خاتم سليمان، حيث يستطيع المرء أن ينفذ كل أمنياته.
فكي تكتب فعلاً يجب عليك أن تنضبط انضباطاً فوق الانضباط العاديّ المقاس، عليك أن ترتقي لتبلغ درجة الانضباط والالتزام المناسب لتلقي الإلهام وتلقف الوحي.
هناك ألف إجابة ربما على السؤال، ولا واحدة منها هي الإجابة النهائية الحتمية واليقينية.
ربما أكتب لأن في وعيي أن هذه الحياة مشاركة، أن بإمكان الكتابة أن تحدث تغييراً في العالم، بالضبط كالسحر، تكتب فيتغير اتجاه موجة صغيرة في مكان ما مجهول، فيحدث ما تريده من الكتابة، ولو بعد حين، تكتب رقية وحرزاً، ظاهرياً هي كلام غير مفهوم الهدف تماماً، لا تفصح الكتابة عن هدفها المباشر، لكن باطنياً تذهب إلى بغيتها الحقيقية.
أكتب كحاجة ملحة، كاضطرار، ربما لو لم أكتب لجننت، أو لاستسلمت لحوادث الموت التي صادفتني ومت.
لماذا أكتب؟
أكتب لأنني أحب الفن، أحب هذا النوع من الأعمال الذي يبث روحاً ويعرضها، يوقد بها ويشعل الأنفس، أحب العمل الخلاق، تتولد منه الحياة، هنا فسحة لصنع حياة بالكلمات، يمكنها أن تثبت روحاً حية في الكلام، وتلك الروح تؤثر في الأرواح الحية فتجعلها تستشعر خطورة الوجود وأمن الوجود وحافة الوجود ومنزلقه ومنفسحه.
بدت الكتابة كما لو أنها الطريقة والوسيلة الأسهل والأبسط، والتي كانت في متناول قلبي ويدي، يدي والأداة، الورقة، القلم، لوحة المفاتيح، الآلة الطابعة، الإزميل والحجر الطيني، والريشة.. كان يمكن دوماً أن أصنع كلمة، وتلك الكلمة، ترجمة لسان جمعيّ أو فردي أو ذهني أو خيالي.
الكتابة قربتني ووضعتني في عالم الأشياء التي احترمتها وأحببتها، أكتب لأن هذه طريقي التي عثرت فيها على روحي وذاتي.
ليس فقط لأنني لا أستطيع وفشلت في السير في الطرق الأخرى البديلة الاعتيادية، ليس ذلك فقط. بل لأنني أحب. أحب هذا الذوق والطعم الكتابي، طعم الحبر أراه نبيلاً وجميلاً ويستحق أن تحيا لأجله، وأن تحب، وأن تعيش، وأن تكتب.
بسبب الحب كتبت أول مرة، حب فتاة، وأنا كنت الصيّاد فصرت الصيدَ ، وابتلعت الطعم، كتبت ليس للفتاة نفسها، بل للقمر، كي يكون رسول حبي، وتلك كانت حركة التفافية بدائرة واسعة جداً ط عن الغرض الرئيسي نفسه، كي أجد نفسي أكتب.
كتبت بحمى، كي أكتشف في حمى الحب وحمى الكتابة من أنا وما الوجود، والآن وانا أنظر إلى مراهق الإعدادية يبدو لي الأمر واضحاً، لم تكن الفتاة حبي، كان وجهها الذي أشرق عليّ في صدفة صباحية بذلك القرب تجلياً وتجسيداً لحبي للجمال، درباً يقودني لإشراقات الكتابة والفن.. احببت فكتبت فأحببت ما كتبته وطفقت هكذا أكتب عن الحب.
أكتب بسبب الجمال، لأنني مغرم، بالجمال الفنيّ وسحره، مسحور أنا ومغيب بين حشود المغايبة المسحورين بجمال الساحر، والساحرة، الجمال سحرنا ونسينا كل شيء آخر، وكان ذلك النسيان أجمل ما فعلناه. رأينا مشهداً وذبنا فيه، ونسينا أنفسنا، توحدنا بما رأيناه، ونسينا الرائي، نتذكرنا أحياناً من بعيد، لكننا منذ تلك المرة الأولى غرقى هناك. في فن الجمال.
نفتش عن الفن ونتبعه ونتقصى آثاره كعلماء الآثار المنغمسين في موقع أثري، لكن الموقع الأثري الذي ننقب فيه ممتد على امتداد الزمن، منذ أول الزمن الذي في الانفجار العظيم حتى آخره، عند النقطة التي يتمدد وينكمش فيها الكون، ولسنا ننقب عن الآثار فقط ونصنفها ونعرِضها، بل نصنع الآثار، نكتبها، نخلقها، نبنيها ونشكلها.
بالكتابة أمكنني الوجود المتعدد
ربما نحن مرضى جداً والكتابة علاجنا الوحيد..
ربما نحن أصحاء جداً والكتابة هي سلمنا للجحيم لنغدو شياطين، أو مرتقانا للسماء لنغدو ملائكة.
لماذا أكتب؟
كل إجابة ستبتدئ بربما، وأظن، وأعتقد، ويمكن.
ستبدئ الإجابات بالاحتمالية، لأن الكتابة من نوع الأفعال المفارقة للواقع، والمتجاوزة للغائية القصدية، فلا غاية واضحة، هذا السؤال على مستوى الأسئلة الكبرى، كالغاية من الحياة والوجود. واجابته فوق الأسباب والغايات الواضحة. وما فوق العقل والنفعية والمصلحة، وهنا يتجلى وجه الفن.
الكتابة أعطت لوجودي معنى يليق بمرور العمر، وبفرصة الحياة الثمينة.
أكتب لأني بالكتابة فقط أقتنع أنني أفعل بحياتي شيئاً بمستواها، وبمستوى حبي، حبي الذي يترجمه كل حب.
أكتب لأنني حي بالكتابة. بها أمكنني أن أصنع حياة ًصغيرةً موازية، عرفتني بأنبل المواضع وأجملها في قلوب الكائنات والأشياء. والوجود.
أكتب لأن الكتابة تجعل قطرة الحبر ثمينة في الحياة وخلاقة.
ولأن الكتابة بدت لي وسيلة فنية من ذلك الفن المطلق الذي أنا في أسره ويحررني، به أستطيع أن أصل من أعماق هذا الوجود حتى ما وراء الوجود، ومن كوانتم الفيزياء حتى الميتافيزيقيا.
وأكتب لأن الكتابة صارت أُكسجين الروح ووقودها. بالكلمات البسيطة أمكنني أن أصنع فناً بأبسط الأشياء، والأدوات، أرسم لوحة لا نهائية تشبه البحر، وأكتب السيرة الذاتية للرمل، وقصيدة الجبل، وأغنية الوادي، وموسيقى الكون. أؤنسن الموجودات الهائلة وأعلن حبي للأرض. ولأن الكتابة تجعلني قادراً على أن أشارك ذلك كله مع الجميع، مع كل من يقرأ ويسمع. فتصير الكلمة الواحدة بمائة لسان وشفة وأذن وعين. ترتسم اللوحات التي نكتبها في مائة ذهن فتشعر الأذهان مثلي بحاجتها للفن وضرورة الفن للحياة وحدود الفن التي تتجاوز بنا كل أفق وبصرٍ وبصيرة.
أكتب لأن جمال الوجود والكون، فن الإنوجاد والكينونة، خصب إلى ما لا نهاية، ويمكن أن نعكسه دوماً في مرايا كلمات أزمنتنا الراهنة مثلما في الماضي الجميل، مثلما في المستقبل الأجمل..

ربما لهذا أكتب..

___
* المادة مشاركة في البرنامج الإذاعي (هواء الكتابة) من إعداد الشاعر صالح العامري..