الاثنين، 9 نوفمبر 2015

لماذا على الشاعر ان يرحل مبكراً؟



لماذا على الشاعر ان يرحل مبكراً؟

طرفة بن العبد امرؤ القيس ذو الرمة وابو تمام لوتريامون بوشكين نوفاليس وجورج تراكل والشابي وامل دنقل والسياب شعراء ذهبوا مبكرين بين نهاية العشرينات وبداية الاربعينات من العمر، ومؤخراً فقدنا الشاعر النبيل النادر حمد الخروصي في تمام الاربعين، وعلى شرفه وبأشعاره العامية الشعبية هذه المادة التي تحاول ان تقرأ وتجيب باستخدام المادة الشعرية نفسها على سؤال الرحيل الشعري المبكر هذا.

حمد الخروصي الشاعر الشعبي:

تسبب الموت المبكر بالنوبة القلبية للشاعر حمد الخروصي في السادس من اغسطس لهذا العام بمدى من الفقد الروحي اصاب الناس والبلاد، موته المفاجئ في رحلة استجمامه في اوروبا، تلك الرحلة التي كانت تسكنه كالحلم، كانت حلماً فاجعاً لنا، لكن ليس بالضروره له كذلك، رثاه الناس في كل مكان، وخصته الصحف جميعها تقريباً بالذكر والتوديع، ولا زالت الفعاليات الثقافية لذكراه تتوالى، ذلك انهُ كان قيمة فنية كبيرة ورحيله خسارة ادبية؛ تجاوز حمد الخروصي بشعره وعمله الانفاق الضيقة والمساحات الرطبة المعتمة وبدأبه واخلاصه المنقطع النظير لشعريته الخالصة دون سواها، صار ترجماناً شعرياً لوجدان الناس وولد في شعره تعبيرهم الصادق وحسهم، لسانهم وصوتهم، وهو كان اينما يذهب ينقب عن الينابيع الاصلية للشعر، عن شعراء العامية الباقين، ويعيد تقديمهم، سواء على مسرح كلية المصنعة التقنية حيث كان يعمل مدرساً، او في المنابر العامة الاخرى، كان يفتش في كل مكان عن الشعر، وعن الشعر العامي خاصة، وبعمله اكتشفنا الشعر الشعبي لدى من كنا نظن انهم لم يكتبوا الشعر العامي والشعبي، كاكتشافاته في ديوان الحبسي شاعر اليعاربه الضرير لمقاطع من فن المسبّع الشعبي، عدا ذلك كان لمشاركاته الشبابية في حراك الأمة، ذلك انهُ كان متحداً بروحها، لاصقاً فيها، هي الوطن الذي كان يسميه غيمة الحب في قصائده، هي البلاد التي كان يقسو عليها في اشعارها من شدة حبه لها، لا يريد ان يراها في اي وضع مخجل او شائن، وبكل طيبة خاطر عندما توجب عليه ان يدفع الثمن من عمره دفعه بالشهور التي قضاها في السجن المركزي، لم يكن مختبئاً خلف كلماته، بل كان يدافع بجسده امامها، دخل شعره قلوب الناس لأن قلبه الصادق كان هناك في ذلك الشعر نفسه، في كل كلمة تنساب من ينابيع قلبه، نفس القلب الذي كانت حياته معلقة به.
تجذر حمد الخروصي في اكناف الشعر الشعبي العماني والخليجي والعربي، وخدمه بكل ما يمكنه ويستطيعه، في مجالس الشعر الشعبي وفي المهرجانات، وحتى حين كان الشعر الشعبي العماني خجولاً يختبئ خلف العتبات لا يجد ساحاته الا في ملاحق اسبوعية مقارنة بالشعر الخليجي المشتهر بالمنابر المبهرجة بالمجلات المتخصصة والاستضافات التلفزيونية، كان هو من اوائل من عمل على تجويد الذائقة النقدية الشعبية، بالمقالات التي كان ينشرها في ملحق عمان للشعر الشعبي، ثم اشتغاله على تغطية وحصر الشعراء الشعبيين في كافة المناطق العمانية، عدا عن اشتغاله في المجلات المتخصصة بالشعر الشعبي وحتى حين بدأت موجة البرامج التلفزيونية المتخصصة كان حمد الخروصي ايضاً واحداً من المشاركين في البرامج النوعية التي تهدف لرفع جودة شعر العامية في المنطقة، كان مؤمناً بالشعر وبالشعر الشعبي بالأخص، بوصفه بوابة لقلوب الناس، قريباً من كلامهم اليومي، ومن مشاعرهم، ووقوداً لأغنيات الناس وفنونهم، وفي عز توهجه النجمي، في أوج اشتعاله خبا جسده فجأة وتوقف قلبه في رحلته الاوروبية، قبل ان يرى كتابه الذي كان يعمل عليه في نقد الشعر الشعبي، ولا ديوان اشعاره. 

لماذا يرحلون باكرين؟

لماذا على الشعراء ان يرحلوا مبكرين، هل كي تضيء القصائد؟ أيخبو نور الشاعر كي لا يزاحم نور الاشعار؟ من يدركون حديقة الخلود وطريق الأبدية كالشعراء والفنانين يعلمون ان جهد الفاني بمستطاعه ان يبقى اكثر، هل لذلك يجهدون لاعمار ذلك الباقي وفي الأثناء يحترقون بسرعة تتناسب مع شدة الإضاءة المنبعثة من ضياء شهابهم الخاطف، وفي شبابهم ذاك ينثنون ليعانقوا الأرض عناق الموت؟

ما الذي يفسر هذا الذهاب المبكر ان لم يكن ذلك الاحتراق المتأجج الذي يلتهم اعمارهم بسرعة، والذي يستهلك حطب القلق كله، انه التلهب الذي غذاه الشاعر بغاز الحب السريع الاشتعال مطولاً، ذلك التلظي الكبير الذي يُمكن مشاهدته من بعيد جداً وبذلك يُعرف ويُشهر، اسم الشاعر علامة على قصائده، رغم ان الأشعار والقصائد بمقدورها العيش يتيمة النسب ومجهولة الأب، رغم انها معلومة الأم بالضرورة، أليست ابنة الحياة؟!

اضطربت مياه المشهد بغياب الشاعر، وفجأة وجد الناس انفسهم في حضرة القصائد والاشعار، ما هو قصد الشاعر؟ ما هي مقاصده؟ ليس السؤال مناسباً للمقام لكنه ولا بد سؤال ملح تستثيره عيون الأشعار كلما حدّق فيها المرء، غياب الشاعر يجعل القصائد تتقدم، لتنير الفراغ الذي خلّفه، انتظار الجديد من الشاعر اصبح مستحيلاً، لكن الجديد كامنٌ هناك: في اعطاف القديم نفسه، تبدأ المعاني بالتوالد امام عين القراء من تلك القصائد نفسها، حتى وان كانوا قد قرأوها من قبل، تملأ القصائد والاشعار فراغ مكان الشاعر بنورها اللابث.

تضطرب انهار الأيام، وبحيرات النفوس بسبب غياب الشاعر، ذلك الغياب المفاجئ، الذي جاء على حين غرة، والذي لم يكن ينتظره أحد، عدا الشاعر نفسه، الموت الذي لم يدر بخلد أحد، وأين موهبة الموت ان لم يكن بامكانه دوماً خلق الفجيعة؛ تحدث الفجيعةُ إذن ويُذهل المشاهد من رؤيتها، وتتباين ردود الافعال والاستجابات تختلف، فيما روح الشاعر ترفرف حرة طليقة من سجنها الفيزيائي، في حدائق عالم الغيب المجهولة.

الشاعر يتبع قدره، يتحول الى علامة غنية وإلى رمزٍ ثري، مقروءاً ومسموعاً ويمكن محاولة استيعاب قصديته عبر الاقتراب من مقاصده الشعرية، تلك التي يقال في تراث النقد أنها المعنى الذى في بطن الشاعر، عبر تلمس ذلك المعنى الذي في احشاء القصائد الغامضة، في أعماقها البحرية السحيقة، في آبارها السرية، هناك يمكن استشفاف ادلة على قيمة تلك العلامة الغنية والرمز الثري.

تحولات الحبيبة:
حبيبة الشاعر تصبح رمزاً هي الاخرى عن الحياة، يتوالد المعنى من جديد بمرور الزمن، برحيل الشاعر، تتحول الحبيبة والمعشوقة الى مجرد رمز حي عن الحياة نفسها: 
مخذول من نفسي
مصدوم بحضورك
شفتك مثل نجمه
ولما ألتفت قلبي
فجأه أنطفى نورك..!!

اي نورٍ بالضبط هو الذي انطفأ؟ بالنسبة لنا نور الشاعر هو الذي انطفى اما بالنسبة لقلب الشاعر فنورنا نحن هو الذي انطفأ!
من هي اذن تلك المضمرة دوماً في القصائد التي كان القلب يحترق بشدة من اجلها، ربما لم تكن امرأة، لم تكن الحبيبة، المعشوقة، أليست الحياة باكملها متنكرة فيها، تلك الحبيبة الجارحة التي بلغ تطرف الشاعر وادمان صداقة جراحها الى حد تمييز جراح حبها، الى درجة معرفة الجروح الوفية من الجروح الخائنة:
بعض الجروح اللي تجي من غيابك سميتها اغلى الجروح الوفية

الحب عالم الشاعر، يجد فيه وقود تأججه المستمر، الحب يجسد له كل المعاني في اشخاص حقيقيين من لحم ودم، وقصائد الشاعر هي النار التي تشتعل:
افتحي باب السوالف للطريق/ وادخلي مع موجة البحر- بدمي/ كل شي موجود من أجل الحريق/ حضني المشتاق وغواية فمي..!!

بضربة خاطفة، هي ميزة شعرية، يلخص الشاعر غرض الوجود كله من اجل الحريق، بما في ذلك احضان العشق والاشتياق، انه الحريق الذي يحول الحب الى وقود من اجل اشتعاله العظيم الذي يستبد به، يحرقه وفي حريقه حياته، ناره هي نفسها وجوده، هكذا فإن الحب المؤلم هو الحب الانسب لهذا الحريق، المفقود هو النوع المطلوب لهذا الاشتعال، الحب القاسي، الذي خان العهود، الذي يتجاهل. يتعمد الشاعر الضغط على الجرح واستفزاز الألم عامداً، هكذا يتذكر الغريم ويعيد مجددا ومرة تلو مرة بتنويعات مختلفة مشهد الخيانة، مشهد الحبيبة التي هربت مع الصاحب الخائن:
كل حبٍ له زمن/ كل غلطه لْها ثمن/ بس أنا عندي سؤال/ إنتي لمن رحتي لمن؟/ لْصاحبي؟ هو صاحبي؟!/ ما غدا هو صاحبي إلا عشانك../ وآنا أتمنى مثل ما خانني/ يكون خانك!!
تتم العودة الى ذلك الحب الكذاب الخائن، الذي يجعله الحرمان مفقوداً ويجعله التذكر موجوداً، من اجل تأجيج نار الذات به، حتى مع المعرفة التامة بأنه خائن تمساحيّ الدموع:
في كل غصّة قلب كلمة هاربه/ مع كل نبضة حب ميعاد وسهر/ خايف عليك من الدموع الكاذبه/ سالت تماسيحك ولا جفّ النهر..

الحب الذي تعترضه العوائق يغدو في اعماق الشاعر هو الحب المفقود والمطلوب، هو الحب المعاد تكراره، لا بد أن تقطع دروب الآلام طرق العشاق كي تمتحن الدعوى، أليست كلمة “احبك” مجرد دعوى تحتاج الى دليل، وأين يكمن ذلك الدليل اذن الا في الامتحانات العنيفة والشديدة، هو حب مثقل بالعوائق دوماً وفيه تغدو حتى صدفة رؤية الحبيب  ملزمة الاقتران بجدران الخجل: 
من خلف اسوار الخجل طارت لك عيوني حمام..

وغير مسموح لهذا الحب ان ينطفئ، بل يجب ان يظل واضحاً غير خافٍ وعلى الدوام متقداً:
وينك حبيبي مختفي لا نجمه اشوفك بها/ لا جات نارك تنطفي بضلوع صدري اشبّها

هي اشتعال ما نسميه حياة، وهي الدنيا والحياة نفسها ما نظنها الحبيبة والحبيب، اذن هاتي ايتها الايام الحبيبة كل ما لديك، في غمضة العين تلك التي نسميها العمر:
هاتي يا الايام هاتي/ دام لك قلبٍ حجر/ كل شي حلو بحياتي/ انتهى بلمح البصر.

في ضرام الحياة يشتعل الشاعر، في عالم الجراح العميقة للحب الجارح القاسي، يحترق بين الهموم الهائلة التي تحولهُ الى حطب مشتعل: 
مثل ما تاكل النار الحطب تاكلني همومي/ وانا كلما بغيت اطفي همومي اشتعل اكثر..

حتى محاولات التخلص من الهموم تكون سبباً في مزيد من الاشتعال، الاشتعال حياة الشاعر، اتقاد النجم، والاشتعال ليس الا حياة الشهاب والنيزك الخاطف ذاك.

الحريق:

في حياة النار لا يمكن التمييز بين الاشياء والآخرين وانا، في الحريق يتعادل كل شيء، في الاشتعال تتحول انا الشاعر الى الحبيبة التي رآها البحر:
البحر شافك/ تلعثم موجه الهادر/ واصبح ينادي الجزر مدّه اذا بنتي/ الليله انتي انا/ انتي انا.. انتي!!

النار مشتعلة، لكنها هي الحياة نفسها، بسرعة تشتعل الاشياء والازمنة وقتٌ خاطف، والعمر هو درب الحريق، من يستطيع ان يميّز حقاً ان كان هو هو نفسه:

هذا انا والا انا هذا/ ولا انا واحد ويشبهني؟!!

من يستطيع في الحريق ان يعرف لماذا كان يحترق وما كان سبب الحريق، او لماذا يكتب:

“حقاً لا اعلم لماذا اكتب؟ فالكتابة فعلٌ لا اراديٌ كالتنفس والتفكير والحب والألم”

“أنا وشعري نحاول نكشف المجهول أنا وشعري نوسّع رقعة المجهول”
كالنار التي تحرق وتضيء في نفس الوقت، اشتعال هو نفسهُ عين الاضاءة؛ والشاعر يدرك حجم الحريق والنار والاشتعال، ويعلم انه سيبقى مع الغصنين اللذين سيبقيان من الحريق، وقد لا يكون الغصنان الا شطري البيت الشعري:
اهدي خطواتك طريق ما بعد مرّه احد/ ما مثل صمتك رفيق ولا مثل شعرك بلد/ وش ترك منك الحريق الا غصنين وحمد؟!

اذن يرحل الشعراء مبكرين لأنهم يحترقون طوال الوقت، النار تسكنهم وهم يؤججونها باستمرار، يضرمونها غير مبالين بما تستهلكه من روح حياتهم واجسادهم وغاز تنفسهم الثمين، يضحون بكل شيء من اجل تلك العلامة الشعرية وذلك الفن الذي يتقاسمه الناس كخبز الأبدية من بعدهم، وبذلك الاشتعال المستمر، السريع، المتلاحق، تكون كينونتهم، واقعهم واشتغالهم، تكون لهم تلك القدرة على الضربة الخاطفة المصيبة، والقوة الكلامية المدهشة بسحريتها وفنها.

حياة الحريق والاشتعال تلك هي ما تستهلك عمر الشاعر، الذي يمر كالشهاب الخاطف، ذلك انها ليست من صنف الكد المجهد في الاعمال اليدوية، او الاسفار، او النصَب والتعب المتخلف من الأعمال الميكانيكية اليومية لحياة الناس، لأن الشاعر باشتعاله يريد ان يمتلك ناصية من الغيب ويلقي نظرة بعيدة من شرفة الزمن، ثم يريد ان يمتلك تلك الحساسية الروحية المتقدة، القادرة على التبصر بمصائر الأشياء، وكل تلك الرغبات المتصارعة في نفس الشاعر تستهلك وقته وعمره، وهو منذور أبداً للاتقاد المتلهب كما للرحيل السريع.

الحدس والوداع والتبصر بالموت:
الوداع الروحي هو ذلك الوداع الذي تسربه الروح الى الحياة قبل رحيلها، يظهر في التصرفات الاخيرة التي لا تفهم في لحظتها ولا تأخذ معناها الكامل الا بعد الوفاة، هناك تحت تأثير حدث الفقد علينا ان نعيد قراءة تلك الاحداث الأخيرة والكلمات القليلة في حياة الراحل بضوء الفقد فيظهر معناها واضحاً وجلياً.
كان حمد الخروصي مؤمناً في شعره بأن الروح تشعر بموتها، ففي رثاءه منذ اعوام خلت لابن عمه مازن الصبي الصغير الذي دهسته سيارة وهو خارج من الحديقة يقول:

“و”مازن” كان متهيي ولابس له وطن وتراب اكيد انه درى بالموت واخفى داخله ذا السر”

اما موته هو الشاعر فقد كان يستفسر مدة طويلة عن بُعد موته! منذ التاسع من سبتمبر في العام الماضي كان يكتب:
كل يوم وانا افك قيد وابني على نفسي جدار/ للناس من جرحي القصيد ولي من الناس الحصار!!/ قريب يا موتي البعيد؟ ولا مثل كذب النهار؟!

والنهار لا يكذب وكذلك الموت اذن لم يكذب الموعد، لقد كان التفكير في الموت يسكن اعماقه واعماق شعره، لذلك كان الشاعر يكتب في ٢٢ يوليو قبل اسبوعين فقط من وفاته على حسابه في تويتر:
“مع كل موت نكتشف ان الحياة خدعة، كل هذا التفكير بلا جدوى” 

مع اقتراب الموعد كان الشاعر قد تأهب تماماً للموت، وبدأت روحه تمضي بخطوة ثابتة نحو هدفها، حتى وصيته لأحبابه كان قد انجزها شعرياً منذ مدة وبالضبط منذ عام كامل في مايو ٢٠١٤:
ما اريد شيٍ من حياتي سوى احباب لا فارقت روحي جسدها يضيقون

مع اقتراب الموعد كان الشاعر قد بدأ يبرم من العمر الذي لم يعد له قيمة، والأحلام التي يصفها بانها تتحول الى سمكٍ مملح محفوظ:
طال الطريق وشابت ايامي ما عاد شيٍ ذا العمر يسوى/ موجٍ يذر الملح باحلامي وقلب بلا اي ارض او مأوى

ومع اقتراب رحلته الاخيرة، رحلة اوروبا التي كانت غلاف الحلم الحقيقي لرحلة الموت، كان يستعرض في حسابه على تويتر كتاب الصراع على سيادة اوروبا لآلن تايلور، يساعد الموت على التنكر، كان يقرأ تاريخ حروب البقعة التي سيموت فيها بالنوبة القلبية، وكرر شكره للكاتب آلن تايلور على المعلومات المهمة التي استقاها من كتابه، كانت القراءة استعداداً منه لرحلته، ألم يكن يعرف ان داخل الرحلة رحلة اخرى مخبأة؟

كان الشاعر يسمع جيداً كل الاصوات التي تطلب منه البقاء لكن كانت رغبة السفر اقوى، هكذا كان ينشر في مارس:
التراب، اللي زرعنا، الشجر، حتى المقابر/ الدروب، بيوت حارتنا، البحر، اخواننا/ كلهم في صوت واحد: لا تغادر، لا تغادر/ والمطار يهز راسه ويستفز اشواقنا.

شوق السفر كان اقوى من كل امنيات البقاء، انهُ السفر السرمدي، انه السفر الذي كان يحلم به الشاعر منذ زمن، في ٣ نوفمبر ٢٠١٤ كان يكتب:
من زمان وخاطري ارحل بعيد ولا أعود 
يا احْتياجي للرحيل 
يا حنيني للحدود

كان شعره في اكثر من موضع يعبر عن رغبته العميقة في الغياب في العودة لذلك التراب والرمل، في التحلل:
الجسد مايٍ وطين الجسد قبضة عجين/ كبرياء انسان وَحل/ يا إلهي يا إلهي/ لو مطرك يبل روحي/ واتلاشى واتلاشى واتلاشى رمل

في السابع والعشرين من يناير بدأ يكتب بصيغة التأهب للموت، متمثلاً أرواح شجر عارية من الورق:

طاح الورق أنا شجر عاري ليت السهر ينبت في عيني نور/ فكّيت لاجل الموت ازراري واخرجت روحي وخاطري مكسور!!

كان الكلام عن الشجرة لكن الشجرة هي أنا، أنا الشاعر تحلّ في روح الشجرة وتنطق بكل جلاء في انتظار الموت الذي باتت تعرف قدومه، وتعلنه بكل وضوح، لكن من اين للعقل ان يدرك ما تقوله الروح؟! وحده القلب يعرف ووحده اللاوعي يدرك.
في السابع عشر من يناير كان يسأل عن لكن بصيغة النفي، والعمر سحابة دخان، مؤكداً انه هو الموت الذي ينام في الشرشف والفراش:
حاولت املي ذا الجسد في ذا الكيان واحدد اهدافي طموحي موقفي/ وش غايتي والعمر سحب من دخان والموت كل ليله ينام بشرشفي.

وفي  ٩فبراير كان كأنما يؤكد على الموت: “الموت مسألة وقت”
بل ان الشاعر رأى نفسه حتى في ما بعد الموت، ألقى نظرة على اشعاره من العالم الآخر:
متعلقٍ ف السما شفت النجوم قبور/ والناس غيمة ظما والشعر هذا نور!!

رؤية من ما قبل الموت لما بعده، لا يقدر عليها غير الشاعر، هو الذي كان يتنبأ بأن ميلاده الجديد كامن في رحم موته، في تصبيحه على بلاده:
صباح الخير يا بلادي صباح الغيم والوادي/ سعيد اكثر من الاول وموتي فيك ميلادي!!

الملصق الاخير بتاريخ الخامس من اغسطس نشر على حسابه الانستجرامي فيديو يلقي فيه هذه الابيات على ضفاف جدول:
احتاج لك خد وعيون وغصن واشقر هاف
مثل ذيك الرموش اللي قراها اول اطماعي
واقول احتاج لك مثل الوطن لا بلت الاكتاف
لا صار السحاب احمر وصار الريح مشراعي

لكن اية حبيبة تلك التي يحتاجها الشاعر، هل يمكن ان نصدق الآن بعد كل هذا انها هي نفسها الحبيبة المرأة او أنها الحبيبة الحياة، ام اننا نرى هنا روح حبيبة أخرى جديدة هي مثل الوطن والسحاب احمر والشراع هو الريح نفسها، الا نرى هنا مشهد الرحلة الختامية، وأن هذه الحبيبة هي الرحلة الأبدية؟

قبلها كان ينشر قصائد عن طول الطريق والاحلام الشائبة، عن الحنين للحب، عن الحبيبة الملتبسة، حياته القصيرة كانت غنية بالعمل، وتلك علامة اخرى اكيدة من الروح، هكذا كانت شهادته الشعرية عن حياته واضحة: 
مرّت حياتي دون ما أدري بها
حتى القصايد في الحزن تتشابه
ماسك نجوم الليله وأرمي بها
نجوم ليل البارحه الكذّابه..!!


في ١٦ مارس ٢٠١٥ كان يكتب يحلم يتنبأ كما لو عن حادثة غامضة مقبله، كما عن استشراف مستقبلي، مشهد صغير مر مرور الصور الشعرية ولم يكن احد يدري ان ذلك المشهد لم يكن الا السيناريو الحقيقي القادم لتلك اللحظة الحرجة من النوبة القلبية ليلة وداعه:

اذكر كان من خلفي يناديني قلب خواف
امل يمسك طرف ثوبي وصوتٍ يطلب ارجاعي
واذكر كان يمسكني ظلام وشيّ ما ينشاف
انا كنت احسبه انتي واثرها ليلة وداعي!

مع مرور الوقت كان شعره يصفو ويرق ويعذب، وبالمقارنه بين الشعر المنشور على مدونته والشعر الأخير المنشور في حساباته على الانترنت في الفيس بوك مثلاً والانستجرام وتويتر نلاحظ خاصية جديدة، خفةً واضحةً وعذوبةً ورقةً متناهيتين وصفاءً مذهلاً، كان ماؤه قد ولد، كانت مراحل الهدم واليأس واعادة البناء والأمل قد تمت، التجربة قد وصلت مرحلتها الأخيرة ومن مرحلتها الأخيرة كانت تتفتق ينابيع مدهشة وصوراً شعرية مسبوكة بعناية من عانى المخاضات كلها وخاض الأودية الخطرة واجتازها قطع البحار والمفازات حتى عاد إلى بحر السويق بين ضفتي سهل الباطنة الأخضر والأزرق والباطنة نهر.

يذهب الشاعر لكن الى أين؟! اين تذهب روح الشاعر، لماذا يعودنا الموتى في أحلامنا ليقولوا لنا أنهم لم يموتوا؟! قبل يوم فقط من رحيله وفي فيينا كان الشاعر يشير الى الجنة على انغام الأغنية الشهيرة (ليالي الأنس في فيينا) كالتالي:
صباح الأنس يا فيينا سلام الأرض للجنه/ ذكرت عيون محبوبي وانا ما كنت ناسنه

هل صاروا في الجنة الآن؟
الم يكن الشاعر نفسه هو القائل:
ما ورا هذي الحياه الا حياه ما تساوي ذي الحياة ف أي شي!!

أشعر اننا سنجد ويجد القراء في معارض الكتب القريبة القادمة ديوان حمد الخروصي المطبوع، وكتابه النقدي في الشعر الشعبي الذي كان على وشك النشر، لأن النسيان لا يستطيع أن يجرف شاعراً وصل الى تلك المرتقيات من العذوبة والرقة والصدق والشفافية، صحيح أن حياته انقضت لكن حياة كلماته مستمرة وتبدأ الآن.
يرحل الشاعر لكنه كان هنا عاش حالماً يتابع اسراب المعاني وظباء الشعر الجافلة ونوقاً اسطورية قديمة محملة بمناديس الكلمات، سافر الى احلامه، تابع غاياته، وحين بلغ النهاية سقط قلبه من التعب، ودلف في الغياب البهي والفقد فبكته عيون البلاد، كما نحزن ونبكي اصواتنا الشخصية كما لو اننا نصبح بُكماً يصير غياب الشاعر معادلاً لموت صوتنا.
كل الأحبة يتجمعون حول زهرة القصائد وينابيع الشعر الباقية لأنها علامة اخيرة تحيينا بابتسامة الشاعر.

الجمعة، 14 أغسطس 2015

حدس الموت عند الشاعر حمد الخروصي


حدس الموت عند الشاعر حمد الخروصي
من حسابه على الانستجرام


ابحث في المتاح على الانترنت من قصائد ونصوص الشاعر النبيل الراحل حمد الخروصي عن مؤشرات الوداع الروحي، ذلك الوداع الذي تسربه الروح الى الحياة قبل رحيلها، التصرفات الاخيرة التي لا تفهم في لحظتها ولا تأخذ معناها الكامل الا بعد الوفاة، هناك تحت تأثير حدث الفقد علينا نعيد قراءة تلك الاحداث الأخيرة والكلمات القليلة في حياة الراحل بضوء الفقد فيظهر معناها واضحاً وجلياً.
يتكرر الموت وذكره في نصوص حمد الخروصي التي عثرت عليها بعد دورة بحث ضيقة، كان الاصحاب في المقهى يعرضون صورة صورها الشاعر قبل رحيله لمقبرة لكني لم اجدها، مع زمن البحث الضيق، لكني وجدته يكتب في ٢٢ يوليو على حسابه في تويتر
“مع كل موت نكتشف ان الحياة خدعة، كل هذا التفكير بلا جدوى” 

في الاثناء كان يستعرض في نفس الحساب كتاب الصراع على سيادة اوروبا، كان يقرأ تاريخ حروب البقعة التي سيموت فيها بالنوبة القلبية، وكرر شكره للكاتب آلان تايلور على المعلومات المهمة التي استقاها من كتابه، كانت القراءة استعداداً منه لرحلته، لم يكن يعرف ان داخل الرحلة رحلة اخرى مخبأة، ام انه كان يعرف؟

في ٣ نوفمبر ٢٠١٤ كان يكتب:
من زمان وخاطري ارحل بعيد ولا أعود 
يا احْتياجي للرحيل 
يا حنيني للحدود

الملصق الاخير في حسابه الانستجرامي ينشر فيه فيديو وهو يلقي هذه الابيات على ضفاف جدول:
احتاج لك خد وعيون وغصن واشقر هاف
مثل ذيك الرموش اللي قراها اول اطماعي
واقول احتاج لك مثل الوطن لا بلت الاكتاف
لا صار السحاب احمر وصار الريح مشراعي

قبلها كان ينشر قصائد عن طول الطريق والاحلام الشائبة، عن الحنين للحب، عن الحبيبة، وهو الذي كان شغوفاً بالبحث عن الشعر الشعبي القديم وتوثيقه وله رحلات منشورة في الصحف يتابع فيها الشعراء الشعبيين، حياة قصيرة لكنها غنية بالعمل، وتلك علامة اخرى اكيدة من الروح، هكذا عثرت على شهادة كتبها حمد عن حياته: 
مرّت حياتي دون ما أدري بها
حتى القصايد في الحزن تتشابه
ماسك نجوم الليله وأرمي بها
نجوم ليل البارحه الكذّابه..!!

في ١٦ مارس كان حمد يكتب يحلم يتنبأ كما لو عن حادثة غامضة مقبله، كما عن استشراف مستقبلي، مشهد صغير مر مرور الصور الشعرية ولم يكن احد يدري وربما حتى حمد نفسه ان ذلك المشهد لم يكن الا السيناريو الحقيقي القادم لتلك اللحظة الحرجة من النوبة القلبية ليلة وداعه:

اذكر كان من خلفي يناديني قلب خواف
امل يمسك طرف ثوبي وصوت يطلب ارجاعي
واذكر كان يمسكني ظلام وشي ما ينشاف
انا كنت احسبه انتي واثرها ليلة وداعي!


اتمنى ان نجد ويجد القراء في معارض الكتب القريبة القادمة ديوان حمد الخروصي المطبوع، كي لا يجرف النسيان شاعراً بمثل هذه العذوبة والرقة والصدق والشفافية، لان حياته انقضت لكن حياة كلماته مستمرة وتبدأ الآن.
صحيح انه قد رحل لكنه كان هنا عاش حالماً يتابع اسراب المعاني وظباء الشعر الجافلة ونوقاً اسطورية قديمة محملة بمناديس الكلمات، سافر الى احلامه، تابع غاياته، وحين بلغ النهاية سقط قلبه من التعب، ودلف في الغياب البهي والفقد فبكته عيون البلاد، كما نحزن ونبكي اصواتنا الشخصية كما لو اننا نصبح بكماً يصير غياب الشاعر معادلاً لموت صوتنا.
كل الأحبة يتجمعون حول زهرة القصائد والكلمات لأنها علامة اخيرة تحيينا بابتسامته.


*رحل الشاعر حمد الخروصي عن عالمنا في ٦ اغسطس ٢٠١٥م مبكراً اثر نوبة قلبية في سويسرا وهو من مواليد ١٩٧٦م

الأحد، 26 يوليو 2015

بوابات الحياة


بوابات الحياة

على ضفاف الأودية التي نظم عليها شعراء بلادي قصائدهم
أسير،
وافكر فيكِ،
من وراء ما تبثه الروح من أنغام،
وما يبتكره الفكر من صوَر
تتفتح الأمكنة كزهورٍ برية.

سأتسلق إلى ورد الغيم،
وأسأله برقة ان اقطف باقةً بيضاء لنفسي،
ها قد بدأ قلبكِ يزهر هو الآخر،
وجهك يكبرُ ويتفتح،
لأن جذور روحك بلغت عميقاً في باطن الأرض وعثرت على الماء.

سأتدفق 
كلما تدفقت زادت غزارتي،
لأن زمني كان بين ملتقى الأودية والبحر،
وامكنتي كانت في اعماق ضفاف وظلال نخيل وسدر وسمر،
وحين تمطر يتفتح ما خبأته الريح في جسدي من بذور.

آه يا ارضي،
اعود واتطهر بمرآك،
من درجات اخضرارك ورمالك وجبالك وبحارك
اخذت لون عيوني.

جسدي ذاهلٌ الآن،
والحصى عيون،
شياه قصائدي الرملية 
ونوق أشعاري
وأبقار كتبي 
مغيّبات ترعى العشب في سهول لامتناهية.

من بعيد أرى
نخيل بساتيننا تلوّح لي،
فيما بعض شعرها يعلق في الغيوم.

من جهة أنا وهي مجردُ تناسخٍ طبيعي،
من مليون سنة،
ومن جهة أخرى، في وجداننا، 
لم يحدث هذا من قبل ابداً في تاريخ الكون.

ها يتفتح كتاب الاشراقات المجيد،
جبالُ الحجر العظيمة تحمل على اكتافها الضوء،
وتستحم في شمسٍ أبدية.

في افتتان الكائن بجماله رأيتك أيتها الحياة،
بوابات سعادة مشرعة،
فمن الذي اصطادك أيتها الكائنات 

واغلق في عينيك تلك البوابات؟

السبت، 28 مارس 2015

سجن الكتابة قراءة في كتاب ميثاق الخلاص لمعاوية الرواحي


سجن الكتابة*
قراءة في كتاب ميثاق الخلاص
شجارٌ مع بؤبؤ واسع
ط1 2015 الانتشار العربي



تعددت الكتابة عن تجربة السجن، أو أدب السجن في أدبنا العماني المعاصر، مع أن تجارب السجن في حد ذاتها صغيرة زمنياً وضيقة مقارنة بتجارب أدب السجون الطويلة للكتاب عالمياً، لكنها شديدة التكثيف وإن كانت لا تتجاوز مثلاً نصف سنة كالتجربة التي وثقها سعيد الهاشمي في كتابه (ياسمين على الغياب رسائل من زنزانة انفرادية) المنشور في 2013، أو هنا مع اختلاف التجربة والتقنية والناتج في تجربة السجن والحجز لعشرة أيام التي وثقها معاوية الرواحي في كتابه هذا ميثاق الخلاص شجار مع بؤبؤ واسع. المنشور هذا العام والذي توافق صدوره مع تغييب الكاتب في سجون السلطات الإماراتية هذه المرة، لذلك فهو كتاب مناسب للاستعادة، بل ان صدوره في هذه اللحظة يقدم نفسه بهذه الصورة لا غيرها..
أولاً يسجن الكاتب بسبب مقاله الشهير ميثاق الخلاص الذي كان أشبه باعتراف بكل ما ظنه الكاتب أسرار اجتماعية ودينية وسياسية، لكن بسبب حاجته للعناية الطبية والنفسية يتحول الى الحجز في مستشفى ابن سينا للطب النفسي وهناك تمده ممرضة طيبة بالأقلام والأوراق ليكتب، وهو الفعل الذي ينتج لنا هذا الكتاب بهذا العنوان: ميثاق الخلاص.
نجد منذ البداية تعبيراً واضحاً عن تلك الرمزية الوثيقة بين الكتابة والسجن، حتى عما هو خفيّ في تلك العلاقة وغير مفتضح منها مثلما يشير لنا معاوية هنا في كتابه عن كون الكتابة نفسها نوعاً من السجن: يا إلهي لماذا أكتب؟ كنت احسب أنني أكتب لأكون حراً. الكتابة سجني!! ص18.

أداة الكتابة
في كتاب ميثاق الخلاص هنا تجربة من نوع آخر جديدة على الكاتب نفسه، هي أن الكاتب كان قد اعتاد الكتابة على لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر، على الشاشة المقابلة، والإشعاع الكهربائي للضوء، وربما حرارة سطح لوحة المفاتيح نفسها، لكنه يضطر مرغماً للتخلي عن ذلك كله إلى القلم والورقة، وما تنتجه التجربة ليس سيئاً على الإطلاق بل لربما هو أجود.
الكتابة بالجهاز مختلفة الإيقاع عن القلم، على الورقة، ليس فقط في مشكلة عدم قدرة الكاتب نفسه على فك رموز وشفرة بعض الكلمات لاحقاً مثلما يوضح كتاب ميثاق الخلاص حيث تتكرر بين قوسين عبارة (لم أفهم خطي) أو (الخط غير واضح) وهي تقنية وسع من استخداماتها الكاتب أحياناً كثيرة كورقة التين لتغطية سوءة عبارة أو كلمة لا يريد ذكرها، كما يتضح ذلك من خلال السياق للقارئ، وأحياناً أخرى كانت تأتي بالفعل في موقع منطمس المعنى أو فارغ..
إذن ليست مشكلة إعادة فك الخط هي وحدها الاختلاف بين الجهاز كأداة كتابة، والقلم، بل أيضاً السرعة وهو ما يشير إليه الكاتب في أكثر من موضع، سواءً بالشكوى من بطء القلم: القلم بطيء وممل وقد اعتدت الكتابة بتسع أصابع/ أقلام. ص12، وما يشير إليه في موضع آخر: على غير العادة أكتب ببطء شديد، على غير العادة أكتب لقتل الوقت لا لقتل النفس هذه المرة. ص38 أو بالشوق للوحة المفاتيح: أشتاق كثيراً للوحة المفاتيح. لم أعتد الكتابة بهذا البطء. القلم بطيء للغاية ولا يكفي. أحتاج إلى عشرة أقلام لأطارد تسارع الأفكار في رأسي لأكتب لك. ماذا لو لم أستطع التوقف؟ ماذا لو استمر الأمر إلى الأبد؟ ص53 إيقاع الكتابة الزمني مسألة أخرى مهمة، يمكن أن نضيف إليها أن الحروف كلها تتشابه على الأصابع في لوحة المفاتيح اذ كلها مجرد ضغطات، بعكس القلم الذي يرقص رقصة مختلفة مع كل حرف.
لكن البطء القلميّ ينضج الكتابة وهكذا سنرى القلم نفسه مع تقدم الكتابة يتحول إلى أداة خلاص، ومن كونه أداة كتابة يتحول إلى أداة فهم: كنت بحاجة إلى هذا القلم كي أفهم، والآن قد فهمت, الآن فهمت، كلنا ضعفاء، واللعبة تنتصر. ص20  هكذا تتكاثر مهام القلم من أداة كتابة لأداة ذكرى: أتذكر وأنا أمسك هذا القلم الأزرق كل الأقلام الحمراء التي صنعت مصيري ص38 وفي فضاء الحجز الخالي من أي أشياء أخرى، في غرفة الحجز الخاوية من الحياة، غرفة السجن والتجميد، يتحول القلم والورقة إلى تعزية وتسلية وأدوات تغيير: وجود ورقة وقلم غير كل شيء دفعة واحدة، إضافة مادية صغيرة جعلتني أكثر تقبلاً لما حولي. ص39 هكذا أصبح البطيء الممل مفيداً أكثر، وواضحاً ومفهوماً، وذلك البطء أعطى معنىً أعمق لفعل الكتابة نفسه.

متاهة الكتابة:
يستعيد الكاتب بداية تجربته الكتابية، ليست تلك الطفولية البسيطة، بل المصممة: أتذكر وأقارن الآن أيام الكتابة الأولى، كنت في مصر عندما أصبح الأمر هواية ثم هوساً ثم لعنة. ص43 تحولت الكتابة إلى لعنة نتج عن آثارها وجود الكاتب في السجن وحجز المستشفى بسبب كتابته..
لكن السبب في السَّجن وهو الكتابة تتحول في السِّجن إلى طريقة تفكير، ومن سجن إلى أجنحة أو نهر يقود الكاتب إلى الذوبان فيه، يحتوي كامل الجسد الشائك حتى النهاية، ويشبع فكرة الجنة نفسها: هل من الممكن أن أجد طريقة أخرى أفكر بها هنا؟ لا شيء إلا الكتابة، هذا السفر العشوائي مع الكلمات والحروف, السفر القديم واللذيذ والأهم، هذا التوتر اللغوي الأزلي, التوتر البدائي الذي يجعل هذه الجدران أقل حلكة وشحوباً.. لماذا أشعر أني في الجنة؟ وأنني فوق استطاعتي (لم أفهم هذه الجملة، لكنني وجدتها مكتوبة هكذا) فوق ذلك أريد البقاء هنا إلى لحظة الموت، هنا إلى الأبد. يبدو الخبر مفزعاً. ص42
في التجربة يستكشف الكاتب نفسه وينكشف لنفسه: لقد انكسر الكاتب بداخلي إلى الأبد. ص14 وهذا ما يجعل الكاتب يطلق وعوداً بعينها، من أخطرها التوقف عن الكتابة: أريد أن أقول كل شيء ولا أريد أن أقول شيئاً. أريد أن أحب مرة أخرى, عندما أخرج سأتفرغ للحب. سأترك الكتابة نهائياً ص20
مع ذلك يتكرر الوعد، أو تبكيت الضمير، بشأن الكتابة: أشعر أنني مخطئ في فكرتي الرئيسية عن الكتابة. أنا مخطئ نعم أنا مخطئ يجب ألا أكتب أبداً, يجب أن أعيش. ص21 أو ص59: لا أريد أن أكتب أريد أن أفرح وأعيش.
هناك في اللحظة نفسها، في الحجز والسجن، والتي هي لحظة كشف ذاتية صافية، يتم استعادة الماضي والحاضر كفيلم أمام ناقد فذ: لم أعد أنا، كان هذا آخر عهدي بي, من أنا؟ لست أكثر من سجين داخل سجين وأريد أن أهرب بأسرع وقت ممكن. ص16، هنا تتضاءل صورة حياة الكاتب كلها إلى مجرد ثرثرة مع الورق: لم أفعل شيئاً طوال هذه السنين. إلا هذا. ما أفعله الآن. أجلس مع ورقة وأثرثر. ص21
تكبر فكرة التوقف عن الكتابة بالتدريج، مع مرور الأوراق التي هي ساعة الكتابة، وبعد شوط الكتابة المقطوع بركضة القلم: هل أكتب وصيتي الآن؟ لا أعرف ولكنني أشعر أنني أكتب للمرة الأخيرة، ولماذا أشعر بذلك لا أعرف. ص31
في السجن والحجز يغدو جلياً غرض المرء من الكتابة في حياته: كنت بحاجة إلى الكتابة لأفهم الذي أنا فيه. ما زلت غير قادر على الفهم. ص31. ويسيطر الخوف أكثر ويتحول المرء أكثر إلى منطقة الشك، حيث كل شيء قابل للشك، وللتردد: أخاف أن تنتهي الأوراق وأخاف أن تمتلئ ص31 وحيث الخوف ووضوح الحاجة جلي بشكل بسيط، حيث يوثق الكاتب حاجته: بحاجة إلى إنسان أكتب له ص37
ويتعرف المرء بعيش تجربة السجن إلى السجون الأخرى الشبيهة التي كان فيها، بالسجن الواقعي يتعرف على السجون الرمزية ويغدو واضحاً سجن اللغة مثلاً: أقول في نفسي لماذا؟ لا أستطيع أن أحب بلغتي؟ أنا سجين لغتي وأريد أن أكون حراً. ص52 يغدو أيضاً جلياً ما يسميه الكاتب معسكر الكتابة حيث حبس نفسه لعشرين عاماً: الحياة التي احبس نفسي فيها في معسكري الكتابي يجب أن تعاش وتمارس. ص62.  ثم تعود الكتابة لتصبح المأثرة الوحيدة فيعود بالعكس لحب لغته: ليس لدي شيء في هذا العالم سوى اللغة وهذه لغتي التي أعشقها اعشق لغتي بشدة. 53
كانت الكتابة فعل مجازفة: أكتب وأغامر ص51 لكنها تحولت لسجن رمزي امتنع الكاتب بالمكوث فيه من الحياة نفسها، وهي هنا سبب سجن، وما كان رغبة في التحرر انقلب لسجن، وحادثة كتابة مقالة ميثاق الخلاص تحولت لكتابة لميثاق السجن: كنت بعد كتابتي للمقال قد شعرت بالخلاص النهائي. الخلاص من الذاكرة والماضي ومن كل الأسرار. كم هو مضحكٌ أن تكتب ميثاق الخلاص لتكون حراً وينتهي بك المطاف لتعيش أيام حريتك الأولى في الحبس!! ص64
مع الوقت يقع الكاتب في الحب، فيوجه رسائل غرامية، ويلح في رسالة طلب موعد من الحبيبة الافتراضية التي يلوح من سياق القراءة أنها نفس الممرضة التي جلبت الأوراق والأقلام ومكنته من الكتابة: لا أريد أقلاماً وأوراقاً، أريد وجهك السماوي ص68 وللحبيبة فقط يعترف لها بسبب الكتابة: هل أعترف لك لماذا كتبت ذلك المقال؟ كلهم يبحثون عن السبب وقد عرفته قبل ساعة واحدة فقط، كتبته كي لا أكون شبحاً بعد اليوم. ص74 إذن هل التحول من الحالة الشبحية، الافتراضية إلى جسد فيزيائي ملموس ومؤثر ومتأثر هو الدافع الكتابي؟!
في ميثاق الخلاص تشارك كل الذوات الفاعلة والحقيقية والمذكورة بالإسم أو الرمز في نفس الفعل الأساسي: الذي هو الكتابة، وتتفاعل معه، مثلما أن الكتابة هي المطلوب الوحيد في كل الرسائل الموجهة إلى الأصدقاء هو الفعل نفسه: اكتبوا اكتبوا، العالم يستحق الكتابة والفرح، هذا ما تعلمته، الفرح ونشره، الحب والكلمات. ص67 وهي الوصية: الكلمات هي التي تبقى لنا. ص67
تتحول تجربة السجن إلى تجربة كتابية موثقة في ميثاق الخلاص، تلك التجربة التي يوثق الكاتب منذ المقدمة تمجيدها بقوله المجد الكتابة، تصبح هي السبب في تحولات الكاتب، في معاناته، وفي رفضه، وفي قدره، وفي موقعه، هي نفسها سجن، وفي نفس الوقت سبيل تحرر، وخلاص وفهم واستيعاب ورفيقة قدر، وهنا تعود الكتابة لتحرر نفسها من الأداتية، من القلم واللوحة نحو كينونتها هي، السابقة على الأداة، كحالة داخلية، تسعى لتوجد من خلال الكلمات، وتولد وتبقى كأثر، والتي يتضح إلى أي درجة بإمكانها أن تحول الكاتب نفسه، إلى أداة أخرى، إلى قلم وإلى لوحة مفاتيح، إلى سجينها اللغوي، أو إلى بطلها المحرر. تلوح خلف كل العمل الذي أنتجته، وسخرت له كل شيء، كما لو أنها وحش خفيّ متنكر، أو طاقة تحرر، تؤجج حرارتها بكل شيء لتعاود الانطلاق. تسجن الكاتب رمزياً وفعلياً، ثم تحرره، كأنها نوع من المطهر أو جسر الصراط المؤدي للجنة والمار فوق نار جهنم.



*كتبت هذه المادة لبرنامج هواء الكتابة الذي يعده الشاعر صالح العامري.. لكن الحلقة لم تبث.. لذا لزم التنويه!

الثلاثاء، 17 مارس 2015

من الساحر؟

من الساحر؟
عمل الفنان موسى عمر


جلس الرواة الثلاثة في مجلس الشيخ علي الناسخ، المخطوطات مصفوفة فوق بعضها البعض على الزوايا، والمحابر والأقلام قرب الشيخ وبين يديه كتاب يقوم بنسخه، لكنه وضع الورقة التي ينسخ عليها جانباً وهو يستمع باهتمام شديد إلى شرح الرواة لعقدتهم مع القصة الغريبة؛ كانت تلك القصة كباقي القصص التي يحفظونها ويروونها عن الخير والشر، لكن فيها سرٌّ غامض يجعلُ كل واحد منهم يرى فيها شيئا مختلفاًً، وكلما أراد أحدهم أن يرويها اصطدم بذلك الالتباس الغريب، وهذه الليلة جاء هؤلاء الثلاثة إلى الشيخ علي وهو قارئ الكتب وناسخها الخبير كي يعينهم على فك عقدة القصة.
تقول القصة:
عاشت أم مع ابنها على أطراف البلدة، وكان ذلك الابن هو همها الوحيد في هذا العالم حتى أنها اختارت العيش بعيداً من خوفها عليه، وأغدقت حنانها باذلة كل رعايتها وحبها وإخلاصها له، وكانت الحياة تعني لها أن تعيش لترى ابنها الوحيد يكبر، ومع مرور الأعوام كان حب الأم وإخلاصها يكبران مع ابنها العزيز الغالي؛ وذات يوم بعد بلغ الفتى عمر الشباب وقع في حب فتاة ساحرة الجمال، لم يطق صبراً على الابتعاد عنها منذ أن رآها، ظل الفتى يلاحق الفتاة الجميلة أينما ذهبت، لا يحرك عينيه عنها بل يتأملها غارقاً في سحر جمالها الجذاب، ضحكت الفتاة من هذا العاشق الغر، وكلما ضحكت عليه كان الفتى يشتعل حباً، ظل الفتى يتبع الفتاة لا يبعده زجرها ولا تهديداتها المغموسة بجمالها، سألت الفتاة الشاب: هل تظن أنني سأصدق حبك لي لأنك تلاحقني طوال الوقت؟  إذا كنت تحبني حقاً فأثبت لي حبك إثباتاً صادقاً. أجابها الشاب بكل تأكيد وثقة: أحبك أكثر من الحياة وما فيها، ولا أستطيع السير بعيداً عنك، وكي تتأكدي من حبي الصادق فأطلبي مني ما تشتهين. فقالت له الفتاة: اذا كنت تحبني حقا فهات لي قلب أمك؟!
انطلق الشاب إلى بيتهم وهناك وجد أمه قلقة متلهفة عليه، ودون مقدمات طويلة قال الفتى لأمه: أمي، لقد أحببت فتاة ساحرة الجمال لكنها لا تصدق حبي إلا إذا جئتها بقلبك، وها أنا قد جئت إليك لآخذ قلبك وأقدمه لها دليلاً على حبي. وبكل وداعة وطيبة قالت الأم: أنا و قلبي لك يا بني، إنما أعيش بقلبي من أجلك يا نور عيني، فخذه متى تريد واعطه من تحب.
قتل الابن أمه وانتزع قلبها، وانطلق مسرعاً نحو حبيبته بلهفة من حصل على هدفه المنشود وبلغ غايته، ومن شدة استعجاله تعثر بحجر في الطريق فوقع وسقط القلب من يده. قام الفتى ونفض ثيابه وتناول القلب ونفضه من التراب فقال القلب وهو بين يديه (سلامتك يا بني). أكمل الفتى طريقه حتى وصل إلى معشوقته مقدماً لها قلب أمه، وحين وقع نظر الفتاة الجميلة على القلب بين يدي الفتى وهو يقدمه لها أصابتها نوبة ذعر شديد وصدمة جعلتها تقف مكانها دون أن تتحرك ثم ولت تهيم وقد اختلط عقلها.
تلك هي القصة.

الفنان موسى عمر

هنا قال الراوي الأول: هذه القصة بدايتها عادية كأية قصة أخرى عن أم وحيدة وابنها إلى أن تظهر الفتاة الساحرة، وهي ليست فتاة عادية وطبيعية كبقية الفتيات وإنما ساحرة يأمرها قلبها أن تحطم قلوب الناس بسحرها، ولا يمكن لسحر جمالها الطبيعي أن يجعلها تطلب قلب الأم ولكنه سحرها الأسود الذي ألقته على الفتى الغر، لذلك سحرت قلب الشاب وجعلتهُ مُغيّباً لا يعي ولا يدرك ما يفعل، فيتبعها ويتوله بحبها وحين أحكمت سحرها عليه أرادت أن تقتلعه من جذوره كي تبقيه خادماً تحت يدها طوال العمر، وهناك طلبت منه أن يأتيها بقلب أمه، ولو لم يكن الفتى مسحوراً لكان تراجع أمام طلبها الغريب، لكن السحر جعله يرى طلبها طبيعياً، وهكذا لم يشعر بأي غرابة وظن أنه يحبها وإنما هو مسحور بيد ساحرة تريد أن تغذي سحرها بأكل الأم المقتولة بيد ابنها ولا شيء يمنعها حين تمتلك القلب؛ والفتى الأحمق صار ألعوبة بيدها الساحرة التي سحرت الابن وأمه.
قال الراوي الثاني: استمعوا إلي، علمتنا القصص أن الساحر كي يكون ساحراً عليه أن يضحي بأعز شيء يحبه في هذا العالم، لذلك يقتل السحرة أبنائهم، كي تتحطم قلوبهم أمام السحر، وكي لا يحبوا شيئاً أكثر من حبهم لذاتهم، فالساحر كي يكون ساحراً كبيراً عليه أن يحب ذاته أكثر من أي شيء آخر، وفي هذه القصة ليست الفتاة وحدها الساحرة ولو كانت كذلك فما الذي يجعلها تذعر حين يأتيها طلبها؟ دققو معي قليلاً في هذه الأم التي عاشت مع ابنها وربته وحافظت عليه: لماذا تهرب بابنها عن الناس؟ ولماذا لم تتراجع حين جاء ابنها يطلب قلبها؟ ألم تشعر بأن هذا الطلب الغريب لا يطلبه إلا مسحور؟ إن الأم لم يمنعها شيء من أن ترى ذلك كله إلا إن كانت هي نفسها ساحرة، ساحرة منعها حبها الشديد لابنها الوحيد من أن تسحره كما يفترض بالسحرة، ولأنها تعرف العواقب حاولت الهرب بابنها بعيداً عن الناس، وعن بقية السحرة الذين قد يفجعونها به، ولأنها ساحرة فهي تعلم أنها ستموت بيد نفس الشخص الذي ضحت لأجله، لذلك لم تتفاجأ حين جاء ابنها لينزع منها قلبها بل أذعنت وتخلت بكل سهولة عن قلبها، ولو كانت أما طبيعية كبقية الأمهات لما فعلت ذلك ولكانت انتبهت إلى ابنها المسحور، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس، لأنها تعلم أنه لا يمكنها أن تستمر في  السحر محتفظة بابنها وأن تظل محافظة على قلبها غير متحطم؛ لقد خرقت الأم الساحرة قانون السحر حتى ارتد السحر على الساحر؛ اسمعوا إلى قلبها يتحدث بعد أن ماتت ذلك لأنها جمعت سحرها في قلبها الذي سيقدمه ابنها لحبيبته، كي تسحر به الفتاة التي تظن أنها هي الساحرة، ولذلك حدث ما حدث للفتاة حينما وقعت عيناها على القلب الساحر.
قال الراوي الثالث: ربما كنتما محقين لكن لا تستعجلوا في الحكم، انظروا إلى هذه الشاب الذي تنعتونه بالحماقة وبأنه مسحور، لقد قتل أعز الناس إليه من أجل نفسه، ثم انظروا ما الذي يريده من الفتاة التي تقولون أنها سحرته: إنه يريد أن يمتلك قلبها؛ لأن من يريد الحب لا يريد الحب فقط بل يريد أن يمتلك القلب؛ إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي نفذ كل ما تتطلبه قواعد السحر، هذا الفتى هو الذي سحرَ أمه وجعلها تعيش خادمة لحياته هو، وأمه التي ضحت بحياتها لم تكن مختارة بل كانت مسحورة، إن الفتى هو الساحر الذي يريد أن يسحر الجميع ليعيشوا من أجله، وأمه ليست أمه الحقيقية فالساحر لا يعترف بأمه، لقد عاملها كإحدى خادماته، وحين حصل على خادمة جميلة جديدة تخدمه في شبابه ضحى بخادمته العجوز التي خدمته في طفولته وصباه بكل سهولة، وعندما جاء إلى أمه كان يعلم بسبب سحره أنها لا تستطيع أن ترد له طلباً، وأحضر القلب إلى الفتاة كي يسحرها ويمتلكها به، وهكذا سحر عقلها وقلبها وجعلها تهيم على وجهها، لقد وقع سحره عليها حتى جعلها مُغيبة من السحر القوي الذي حل عليها، ذلك هو السحر الذي حطم سحر الجميع، سحر الفتاة والأم.
إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي انتصر على الساحرتين في نهاية القصة، هو الذي رد سحر الفتاة، وضحى بأعز إنسان عنده من أجل السحر، وهكذا كان هو الفائز الأكبر في هذه القصة لأنه سحر الاثنتين من أجل ذاته.
أكمل الراوي الثالث كلامه وكانت أضواء القنديل تتراقص فوقهم جميعاً والليل قد ولى أكثره والشيخ علي الناسخ ينصت إلى الرواة باهتمام، وبعد أن أتم كل راوٍ منهم رأيه في القصة قال الشيخ علي مبتسماً:
هذه حقاً قصة غريبة، لكن أتعلمون ماذا لو لم تكن قصة عن السحرة كما تظنون، لا تخدعكم الظواهر الخارجية واذهبوا إلى المعنى العميق، إني حين أبحث عن معنى القصة الحقيقي أراها قصة وضعتها ربما أمٌ هجرها ابنها الوحيد وسافر عنها إلى السواحل البعيدة مع زوجته، لأن معنى القصة يتحدث عن الزوجات اللواتي يخطفن الأبناء من أحضان أمهاتهم باسم الحب. وعن قلوب الأمهات الوحيدات المرمية على التراب. وأرى فيها إشارة للزوجات بما سيصيب قلوبهن يوماً كما أصاب الأمهات اللواتي تحطمت قلوبهن بيد الأبناء.
قال الشيخ ذلك وصمت برهة، ثم تناول الورقة التي كانت في يده مكملاً النسخ في هدوء شديد، ظل الرواة الثلاثة مكانهم ينظرون إليه وقد علت وجوههم مسحة التفكير العميق، ثم استأذنوه ومضوا في ظلام الليل واجمين.

الاثنين، 16 مارس 2015

لماذا تكتب؟*

لماذا تكتب؟

اللوحة للفنان محمد نظام


سؤال خطر، متفجر، سمعتُ وقرأتُ عن شعراء وكتاب توقفوا عن الكتابة، ربما بسبب هذا السؤال، ليس لأنه فقط من وزن لماذا تصنع الفن؟ بل أيضاً لأنه على نفس مستوى أسئلة لماذا نحيا؟ لماذا نعيش؟ لماذا نحب؟
قبضة هذا السؤال، إذا نظرنا إليه على أنه سؤال نفعي، تحاول أن تطبق على رقبة القلم، تريد أن تكسِر الأصابع.
الكتابة مزيج من الحتمية القدرية والاختيار الثابت للإرادة، ذلك الاختيار الذي يبدو كأنه نوع من التفاهم النفسي مع السكن الضروري الجبري في وادي الكتابة.
أكتب لأن الكتابة بدت لي دوماً ومنذ الصغر طريقة سحرية، نوعاً من خاتم سليمان، حيث يستطيع المرء أن ينفذ كل أمنياته.
فكي تكتب فعلاً يجب عليك أن تنضبط انضباطاً فوق الانضباط العاديّ المقاس، عليك أن ترتقي لتبلغ درجة الانضباط والالتزام المناسب لتلقي الإلهام وتلقف الوحي.
هناك ألف إجابة ربما على السؤال، ولا واحدة منها هي الإجابة النهائية الحتمية واليقينية.
ربما أكتب لأن في وعيي أن هذه الحياة مشاركة، أن بإمكان الكتابة أن تحدث تغييراً في العالم، بالضبط كالسحر، تكتب فيتغير اتجاه موجة صغيرة في مكان ما مجهول، فيحدث ما تريده من الكتابة، ولو بعد حين، تكتب رقية وحرزاً، ظاهرياً هي كلام غير مفهوم الهدف تماماً، لا تفصح الكتابة عن هدفها المباشر، لكن باطنياً تذهب إلى بغيتها الحقيقية.
أكتب كحاجة ملحة، كاضطرار، ربما لو لم أكتب لجننت، أو لاستسلمت لحوادث الموت التي صادفتني ومت.
لماذا أكتب؟
أكتب لأنني أحب الفن، أحب هذا النوع من الأعمال الذي يبث روحاً ويعرضها، يوقد بها ويشعل الأنفس، أحب العمل الخلاق، تتولد منه الحياة، هنا فسحة لصنع حياة بالكلمات، يمكنها أن تثبت روحاً حية في الكلام، وتلك الروح تؤثر في الأرواح الحية فتجعلها تستشعر خطورة الوجود وأمن الوجود وحافة الوجود ومنزلقه ومنفسحه.
بدت الكتابة كما لو أنها الطريقة والوسيلة الأسهل والأبسط، والتي كانت في متناول قلبي ويدي، يدي والأداة، الورقة، القلم، لوحة المفاتيح، الآلة الطابعة، الإزميل والحجر الطيني، والريشة.. كان يمكن دوماً أن أصنع كلمة، وتلك الكلمة، ترجمة لسان جمعيّ أو فردي أو ذهني أو خيالي.
الكتابة قربتني ووضعتني في عالم الأشياء التي احترمتها وأحببتها، أكتب لأن هذه طريقي التي عثرت فيها على روحي وذاتي.
ليس فقط لأنني لا أستطيع وفشلت في السير في الطرق الأخرى البديلة الاعتيادية، ليس ذلك فقط. بل لأنني أحب. أحب هذا الذوق والطعم الكتابي، طعم الحبر أراه نبيلاً وجميلاً ويستحق أن تحيا لأجله، وأن تحب، وأن تعيش، وأن تكتب.
بسبب الحب كتبت أول مرة، حب فتاة، وأنا كنت الصيّاد فصرت الصيدَ ، وابتلعت الطعم، كتبت ليس للفتاة نفسها، بل للقمر، كي يكون رسول حبي، وتلك كانت حركة التفافية بدائرة واسعة جداً ط عن الغرض الرئيسي نفسه، كي أجد نفسي أكتب.
كتبت بحمى، كي أكتشف في حمى الحب وحمى الكتابة من أنا وما الوجود، والآن وانا أنظر إلى مراهق الإعدادية يبدو لي الأمر واضحاً، لم تكن الفتاة حبي، كان وجهها الذي أشرق عليّ في صدفة صباحية بذلك القرب تجلياً وتجسيداً لحبي للجمال، درباً يقودني لإشراقات الكتابة والفن.. احببت فكتبت فأحببت ما كتبته وطفقت هكذا أكتب عن الحب.
أكتب بسبب الجمال، لأنني مغرم، بالجمال الفنيّ وسحره، مسحور أنا ومغيب بين حشود المغايبة المسحورين بجمال الساحر، والساحرة، الجمال سحرنا ونسينا كل شيء آخر، وكان ذلك النسيان أجمل ما فعلناه. رأينا مشهداً وذبنا فيه، ونسينا أنفسنا، توحدنا بما رأيناه، ونسينا الرائي، نتذكرنا أحياناً من بعيد، لكننا منذ تلك المرة الأولى غرقى هناك. في فن الجمال.
نفتش عن الفن ونتبعه ونتقصى آثاره كعلماء الآثار المنغمسين في موقع أثري، لكن الموقع الأثري الذي ننقب فيه ممتد على امتداد الزمن، منذ أول الزمن الذي في الانفجار العظيم حتى آخره، عند النقطة التي يتمدد وينكمش فيها الكون، ولسنا ننقب عن الآثار فقط ونصنفها ونعرِضها، بل نصنع الآثار، نكتبها، نخلقها، نبنيها ونشكلها.
بالكتابة أمكنني الوجود المتعدد
ربما نحن مرضى جداً والكتابة علاجنا الوحيد..
ربما نحن أصحاء جداً والكتابة هي سلمنا للجحيم لنغدو شياطين، أو مرتقانا للسماء لنغدو ملائكة.
لماذا أكتب؟
كل إجابة ستبتدئ بربما، وأظن، وأعتقد، ويمكن.
ستبدئ الإجابات بالاحتمالية، لأن الكتابة من نوع الأفعال المفارقة للواقع، والمتجاوزة للغائية القصدية، فلا غاية واضحة، هذا السؤال على مستوى الأسئلة الكبرى، كالغاية من الحياة والوجود. واجابته فوق الأسباب والغايات الواضحة. وما فوق العقل والنفعية والمصلحة، وهنا يتجلى وجه الفن.
الكتابة أعطت لوجودي معنى يليق بمرور العمر، وبفرصة الحياة الثمينة.
أكتب لأني بالكتابة فقط أقتنع أنني أفعل بحياتي شيئاً بمستواها، وبمستوى حبي، حبي الذي يترجمه كل حب.
أكتب لأنني حي بالكتابة. بها أمكنني أن أصنع حياة ًصغيرةً موازية، عرفتني بأنبل المواضع وأجملها في قلوب الكائنات والأشياء. والوجود.
أكتب لأن الكتابة تجعل قطرة الحبر ثمينة في الحياة وخلاقة.
ولأن الكتابة بدت لي وسيلة فنية من ذلك الفن المطلق الذي أنا في أسره ويحررني، به أستطيع أن أصل من أعماق هذا الوجود حتى ما وراء الوجود، ومن كوانتم الفيزياء حتى الميتافيزيقيا.
وأكتب لأن الكتابة صارت أُكسجين الروح ووقودها. بالكلمات البسيطة أمكنني أن أصنع فناً بأبسط الأشياء، والأدوات، أرسم لوحة لا نهائية تشبه البحر، وأكتب السيرة الذاتية للرمل، وقصيدة الجبل، وأغنية الوادي، وموسيقى الكون. أؤنسن الموجودات الهائلة وأعلن حبي للأرض. ولأن الكتابة تجعلني قادراً على أن أشارك ذلك كله مع الجميع، مع كل من يقرأ ويسمع. فتصير الكلمة الواحدة بمائة لسان وشفة وأذن وعين. ترتسم اللوحات التي نكتبها في مائة ذهن فتشعر الأذهان مثلي بحاجتها للفن وضرورة الفن للحياة وحدود الفن التي تتجاوز بنا كل أفق وبصرٍ وبصيرة.
أكتب لأن جمال الوجود والكون، فن الإنوجاد والكينونة، خصب إلى ما لا نهاية، ويمكن أن نعكسه دوماً في مرايا كلمات أزمنتنا الراهنة مثلما في الماضي الجميل، مثلما في المستقبل الأجمل..

ربما لهذا أكتب..

___
* المادة مشاركة في البرنامج الإذاعي (هواء الكتابة) من إعداد الشاعر صالح العامري..

الأربعاء، 25 فبراير 2015

القراءة الحية والميتة على أبواب معرض الكتاب مسقط 15

عمل انعكاس الذاكرة للفنان حسن المير
القراءة الحية والميتة على أبواب المعرض

هناك قراء كما وصفهم القرآن: كمثل الحمار يحمل أسفارا، وهناك قراء يدركون أية آلة للسفر عبر الزمن والمكان هي الكتب. لكن ذلك السفر غير ممكن بدون القراءة الحية.
مررنا بالكتب، مرت علينا الكتب، طارت داخل رؤوسنا بأجنحتها الورقية، ثم تحولت إلى طائرات ورقية عالية جداً، صنعناها وأمسكنا بالخيوط، قد تقطع الريح الخيط ويطير الكتاب للسماء، قد يصطدم الخيط بأسلاك الكهرباء وتتطوح الطائرة هناك حتى يأتي عمال طوارئ الكهرباء ويفكون الكتاب من التكهرب.
الكتاب الذي لوحته الشمس، الكتاب الذي يغرق في الماء وينتفخ، الجسد الورقي الذي يحاول أن يصير جسداً حياً، ليجسد الحياة الكامنة داخله.
ونحن دلفنا في مكتبات ضخمة، ولا نريد الخروج منها، في المكتبات وجدنا المؤلفين يسكنون داخل كتبهم، كلماتهم حجارة لبيوتهم الأبدية، هكذا جلسنا ساعات طوال مع كتابٍ يفترض العالم وفاتهم منذ قرون، لاقينا كتباً لا زالت شابة شاركتنا قهوتنا وشاينا وتبغنا الشناصيّ رغم أن أعمارها تجاوزت القرون..
كان الحديث في الكتب يجري عن عالم آخر، أخٌ لهذا العالم، أو ابن، لكنهُ تحول لعالم اسطوري، في بحرٍ زاخر وعظيم، ومخاطر محدقة بمن لا يجيدون قراءة أعماق البحر من سطحه، لمن لم يتعلموا قراءة الرمل من خطوطه، والريح من نسيمها، والمطر من رائحته، والسماء من سحابتها، غرق محدق بمن لا يعرف كيف يقرأ صفحات الجبل والسهل والنهر والسيح الأجرد والسيح الخضير، من لا يقرأ يغرق، ومن لا يصنع مركباً ورقياً وسفينة ورقية وميناءً ورقياً ومدينة ورقية وبلاداً ورقية، يغرق من لم يتعلم فنون الإبحار في فنون المحيط لعالم الكتب.
الكتب مرايا، الكتب بحيرات، وأنهار، ومياه عواصف، وأعاصير، ومحيطات زاخرة بالكائنات والمخلوقات الغريبة،
هناك من لا يرى إلا الكلمات السوداء، وهناك من يرى تلك الكلمات نوافذ على بحار سحرية، وكل كتاب سفينة مبحرة، والقارئ قائد الدفة، والنوخذة، وعريف البحارة، والراكب والتاجر والسائح والمهاجر والعائد.
الكتاب أداة/ آلة قراءة، الكتاب آلة من آلات القراءة وأدواتها، هناك كتب تقرأ كما التأمل في منظر طبيعي، هناك كتب قرائتها كالجلوس على شاطئ البحر، وكتب قرائتها كالدخول في غابة مظلمة، وكالسباحة الطويلة، وكالغرق، وقراءة كالتفكير العميق، وكصناعة الربيع من الشتاء، أو قراءة كالدخول إلى بستان الملائكة، أو قيادة سيارة رياضية في حيّ الشياطين..
وهناك كتب باردة، رديئة، متهافتة كجوقة المتسولين حول السائح، أو كالعاهرات اللواتي تلفظهن حانات الفنادق آخر الليل، تتصيد القارئ ولا تقصد إلا نقوده، ثم لا تكترث به، تتركة في صحبة باردة، وحيداً يخيل إليه أنه في موضع المحسن، وهو في نظرهم المغفّل. يتعاون عليه الكاتب الرديء والناشر البائس والناقد المرتزق والقراء الجهلة. وبدون القراءة الحية لن يدرك ذلك ابداً وسيتحول إلكتاب عنده إلى علف وهو بالطبع إلى دابة كتب.
قد تكون الكتب أشرف ما يمكن فيه صرف الأموال، وربما كان من يمتلك الكتب تتبارك أرزاقه وتتنامى، يمكن أن من يشتري مزيداً من الكتب تقوم ملائكة برعاية رزقه وكفافه، يسخر له الأمير سليمان كما سُخر سليمان بن المهلب ليخدم الخليل بن أحمد، لكن لأن الخليل قارئ حي فلا بد أن يأتي يوم يقول فيه لرسول سليمان:
اخبِرْ سليمان أنّي عنهُ في سِعةٍ وفي غنىً غيرَ أني لستُ ذا مالِ/ سخٍ بنفسي أني لا أرى أحداً يموت جوعاً ولا يبقى على حال/ .. والفقر في النفس لا في المال تعرفهُ ومثل ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ..
حتى لو قيل أن طلبة الخليل يجنون بعلمه الذهب والخليل لا يجد ما ينفق به على بيته، فقد كان الخليل يكسب العريض والعروض من نفس المستقبل ويترك للقراء الموتى والوشيكي الموت العَرَض الزائل.
الأدوات أهم من الكتاب، وداخل كل كتاب توجد كل الأدوات لصنع القارئ الحقيقي الناقد، الفعال، الحيوي، الذي يستطيع عصر الكتب وطرح الزائف ورفع الحقيقي. إذا لم يوجد ذلك القارئ فسيتحول إلى عدد ضمن أعداد لا حصرية من القراء الجهلة الذين يتحولون بالتدريج إلى أمناء مخازن كتب، لا هم يدركون قيمة ما يختزنون ولا يستطيعون الاستفادة من قيمة الكتاب في الحياة، لا يساعدهم الكتاب ولا يسعفهم.. تجتمع في مكتباتهم كل الخطايا، رداءة الكتاب الفاشلين ولصوصية الناشرين البؤساء، وأمنياتهم الحماقات، يمتلكون كل الكتب التي يتمنون قراءتها لكنهم لا يقرأونها، كالمصابين باللعنة..
القراءة الحية وليست الكتب هي التي تحررنا من السجون التاريخية، من أحكام السجن الواقعية، من السجون السياسية، من سطوة الأفكار البدائية، من سجوننا الذاتية، من السلطات الثلاث، ومن السلطة الرديفة الرابعة، تحررنا القراءة الحقيقية من كتب أخرى، ومن الكتب نفسها، تصنع القراءة الحيوية لنا أجنحة، وتجعلنا نطير، تمنحنا قوة فعالة، تزلزل المراكب الرديئة، تفضح الكذب، وتعمّر ما يبقى، تحررنا القراءة من سطوة الهيمنة، من متلازمة استكهولهم، ومن كل وهم، كي نعرف حقيقة العيش وننظر بصفاء للقيمة الفعلية للحياة الواحدة..