الخميس، 24 أبريل 2014

بحر أمواج النساء الصوتية

بحر أمواج النساء الصوتية

تفصيل من صورة للمصور العماني عبدالله العبري من حسابه على flicker

أية أمواج صوتية، صيحات عشق، أي غابة أصوات، وصحراء غناء. أي وادٍ أي بحر يركب اللحن يتشابك موجه في بحره، أية لحظة مفارقة يجري فيها الغناء الجارف، فيتركك ذاهلاً عن غرقك فيه. 
غناء الأعماق، تتلاطم الأمواج الصوتية حول القارب الموسيقي يغرق.. غن غن  أغنية وجودك..

لن تشعر إلا والبحر الذي غمرك فجأة، البحر الصوتي، قد اختفى وخلفك غريقاً، لكنك لم تترك مكانك، غرقت وغمرتك المياه وكأنك بلغت القاع في نفس الوقت الذي طرت فيه، لكنك مكانك، البلل داخلك, في خياشيم روحك مياه مالحة، وأنت مكانك في البر فترغب من جديد في غرق السماع.
الانصات لما فوق الكلمات.
الكلمات تتحول لآلات موسيقية، تطلق اللحن الكامن فيها، فتنطلق الموسيقى الحروفية لتقول أن الكلمات أيضاً لحن وموسيقى، تستمع للكلمات فتسمع قبل المعنى اللحن، يصبح اللحن خادماً متواضعاً بين يدي موسيقى الكلمة، ليس المعنى مهماً هنا، بل الأغنية، بل الموسيقى، هكذا ترتفع الموسيقى والأغنية بقدر المعاني البسيطة والعادية لتصنع منها تلك المعاني التي تلبث في الذاكرة وتؤثر في النفس.
ليست المعاني مهمة هنا، بل ما فوق المعاني لحن الكلمة، ليست اللغة مهمة هنا، لأن الغناء يتم بالجذر الموسيقي الأول لكل اللغات، حين كانت نغمة صوتية أولى، تستمع الكلمات فتدرك من أي بحرٍ موسيقي جاءت وانطلقت.
تنصت لما فوق الكلمات، توقف المعجم التفسيري والقاموس عن العمل، وتستمع لمعجم النوتات الموسيقية وهو ينقل لك حقلاً دلالياً آخراً وبحر معانٍ مختلفة.
أصوات روحية كالسفن الهائلة الضخمة تحمل كل الثقافة في اللحن الذي يحتاج تفكيك شفرته النغمية واستقاء معلوماته الروحية لمئات الكتب والبحوث والتنقيب، تختصره ألحان الأغاني..

صورة الغلاف تفصيل من صورة للمصور العماني أحمد الطوقي من حسابه على flicker

لاشيء غير هذا الصوت لكنه يحيي عوالم


صورة الغلاف للمصور الأمريكي ماركو موروني Marco Moroni من صفحته في flicker
لا شيء غير هذا الصوت لكنهُ يُحيي العالم..[i]

أساس المناسبات اللحني، الموجة الصوتية التي فوق الآلات الموسيقية، تنطلق كملكة في مملكة الإصغاء فتستقطب الأذهان..

السماع حاسة من حواسِّ الجسد، والجسد كلهُ حاسة كبيرة للروح، الروح تقف وتنصت لما وراء الكلمات، الروح تقف وتدخل في روح الصوت. الروح تريد من جسدها أن يغني لها نفس الأغنية..
صوت المغني يوقفك وراء الكلمات المغناة، الكلمات والمعاني الشعرية مجرّد أدوات موسيقية هي الأخرى كالأدوات الموسيقية من أجل انطلاقة الصوت، أدراجٌ أو سلالمٌ موسيقية يصعد عليها صوت المغنين حاملاً أرواحهم في غنائهم، عذوبة الصوت مصقولة بقوة الروح، تطلق قواها داخل الأغنية المنطلقة في البرية الصوتية للزمن..
صوت المغنين المتقشف وحده، بلا أنغام إلا ما في صوته من أنغام وألحان، بلا امكانيات الآلات والأدوات، بلا سلالم يطلق صوته العاري كوليمة روحية لحواس الأرواح، ويدعوها كما يدعو الرحيقُ النحل؛ رحيق الأصوات.

ينطلق صوت المغني فيعيد تنظيم الموجات الصوتية وتهدأ النفس، وتعرف العسل. 
الأغاني الكثيرة عن الحب تعبيرٌ عن حالة حب الأغنية، عن حبّ الغناء نفسه، الأغنية نفسها حبيبة، واللحنُ حبيب، نحب الأغنيات كأنهن هنّ الحبيبات. ربما لأن الأغنية كالشعر ابنة الحب..
في التخطيط الأساسي الأول للأغنية يقف الشاعر الرعوي: الشاعر الذي يؤلف أغنياته ويغنيها؛ بلا آلات موسيقية مصاحبة غير صوت مرافق يردد وراءه اللحن، يعطيه فرصة تكرار صعوده الروحي مع كل مقطع، صوت المغني وصوت الكورال الفردي يتناوبان الاستراحة، وتلك الأغنية البسيطة المكونة من صوتين تعيد ترتيب الوجود في الأنفس وتدل الأرواح.
الأغنية جذرٌ إنساني قديم جداً ينبثق من عين الطبيعة الانسانية، عن أغنية الأنفاس الأولى. صياح طفل وهدهدة أم. هدهدة إنسانية للوجود مكونة من خشية وطمأنينة. أغنية الكائنات الحية، ولا هدف آخر سوى بلوغ الأغنية نفسها واطلاق أنغامها في الهواء.. في خلود الهواء.
الصوت الانساني، اللحن الموسيقي الوحيد الذي ينطلق من آلة حية فيسحرُ كل الأرواح، الناطقة والعجماء، يحمل أشجانهُ وشعرهُ وتعابيرهُ وقصص حبهِ وشوقه وحكمته وهمومه، في صرةٍ صوتية، وهو يرحل صعداً ونزلاً في المقامات والأدراج الموسيقية.
الأغنية الشعبية بيت الجذر الصافي، عارياً كما هو منذ قرون طويلة، صوت الأغنية الحي يعيد التأريخ للأغنية، يكرر وجوده ويشعل بشرارة صوته الأولى الصغيرة كامل الحقول الموسيقية، حتى أطراف الجبال النغمية، وحتى دلتا النهر، إلى ملتقى الحدود البحرية بالحدود السماوية.
تراث أهل الطرب الشعبي حين يرحل أهل الطرب أنفسهم سيحفظه الناس وينسونه، لكن هناك من هو اكثر اخلاصاً، سيحتفظ بذلك الصوت في أداة حفظ الصوت، في شريط مسجل بوسائل بسيطة، وسيعيد طرح نسخٍ من تلك الكنوز على امتداد عمره، بامكانياته الصغيرة سيحفظ ما يستطيعه من كنوز المغنين الشعبيين، أهل الطرب كما هو اسمهم في الأدبيات الشعبية، مسجلة في أشرطة سمعية، التسجيل رديء بسبب طبيعة الأشرطة نفسها، وبسبب التسجيل الذي لم يكن في استوديوهات مجهزة، ولا بأجهزة سمعية متخصصة، بمسجلة عادية من تلك التي تباع في الأسواق لا غير، يسجل بها المغني نفسه، في بيته لربما، ويوصلها إلى هذا الرجل، أو تصل إليه من طرق أخرى.


لا زال هذا الرجل، أمد الله في عمره، ناصر بن محمد بن حمود الحجري من سوق أسبوعي لسوق أسبوعي يحمل بعض تلك الأشرطة لأشخاص رحلوا عن الدنيا، أو ما زالوا باقين، يعرضها في الأسواق الشعبية، علها تستثير نحل ذاكرة ما، وتجذب فراشة روح تتذكر، أو تريد أن تنصت للأغنية وهي تصعد من أعماق البحر وتطير في السماء.
أغنية قديمة وصندوق ذكريات يندر من يرغب في فتحه اليوم، ويندر المغني والجمهور معرضٌ للانقراض، وفنون ذهبت أدراج الزمن، لكن هناك قلة مخلصين، يرغبون في الاقتراب من روح ذلك الزمن، أو يحاولون بعثها، يبتاعون صناديق الذكريات تلك كي يعيدوا الاستماع لصوت الذكرى.
 حمود بن هلال الهاشمي ود هلّول
قبل عشرين عاماً، وفي عام 1984 توقفت الأعراس والمناسبات في قرية الظاهر من ولاية بديه لشهرين، لأن حدثاً جليلاً وشخصاً مهماً ومحبوباً جداً توفي من العائلة الكبيرة، لم يكن ذلك الفرد شخصاً آخر سوى ابو خالد الشاعر والمغني حمود بن هلال الهاشمي وكان قد توفي فجأة في حادث سير، خسرت البلدة صوتها المغني، لذلك كان شعور أهل البلاد لفقدهم برحيله، ولمصابهم بفقده يحتاج إيقاف الأفراح وليس مجرد إقامة العزاء، ذلك لأن الرجل الذي كان يحيي الأفراح رحل.. ولأن المزمار سكت، كما يصفه حمد سلطان، فلا بد أن الأفراح نفسها حزينة لفقده. أو أنها توقفت عن الحدوث داخل أنفس الناس من شدة حزنها العميق.
  
الصوت يغني عارياً من ثياب الآلات الصوتية،
اليو دان دان هي النوته هي اللحن الرئيسي يتم ترديده لتضبيط أوتار عود الصدر على لحن الأغينة.
اللازمة التي هي (غنى وناح طير الحمام) و (يا الله من الود وغرامه) و (هيّا يو عيني) كوبليه يتكرر لاستثارة غناء الحمام، وإثارة طاقة الشجن في المغني، لاشعال النار في الروح والجسد المنصت كله..
وكما لو أنهُ كان يتنبأ بالحادث الذي سيأخذ روحه، لكنهُ لن يتهم بروحه أحداً غير الحب
ليس عجيباً أن تنتهي أغنية الأبجدية لحمود هلال الهاشمي بذكر المسجِّل، تمجيداً لآلة التسجيل التي عهد إليها أمانة كنز الصوت.. 

[i] كل الشكر للعزيزين حمد سلطان السليمي وعبدالله بن راشد السليمي اللذين لولاهما لما كان هذا العمل.