الاثنين، 30 يوليو 2018

غنائية الموت

غنائية الموت

عمل الفنان أحمد المنذري
في كلِّ موتٍ من أحبائنا
يموتُ شيءٌ فينا
وكما نحيا نموت

كلُّ يومٍ قادمٍ يأتي
يدفنُ يوماً ماضياً

كل مرحلةٍ تُطوى من الأعمار
كلّ تجربةٍ قضيناها
وكلُّ حبيبةٍ هجرت، مضت، وتصرمّت
ماتوا
ونحن في مقبرة الذكرى دفناهم بأيدينا

هوّن عليك
لا يشربُ الموتى دموعك
لا يأكلون الحزن حتى تولم الأحزان
ولا تعيدهم الكآبة والتعاسةُ والهموم.

فليكن حزنك نوراً نبيلاً
واقترب من موتك الشخصيّ في موتاك
لا تهرب
وقل متُّ قليلاً
وغداً سوف أموت.

لا تخش موتك
واجههُ كما يجدرُ بالحيِّ الحقيقيِّ
وبالموتى الأعزة
لك أحبابٌ يسكنون الموت
ورفاتهم في المقبرة
فاحتضن أطيافهم بالحب
لا تمتنع عنهم
ولا تتنكر لموتاك.

أنت الذي
تسقي من العدمِ الوجود
تروي البقاءَ من الفناء
تغذو الحضورَ من الغياب.

إذا ما ارتقيتَ وأدركتَ أن الحياةَ ابنةُ الموتِ وأنَّ احترامَ المماتِ احترامٌ لنفسكَ
فعش بعدها مثلما تشتهي

هيَ الروحُ
فهيا التفت بعنايةِ قلبكَ نحوَ الصميميِّ في العيشِ وتعرّف إلى ذاتكَ المُهمَلة

أزجِ اهتمامكَ للحيِّ 
تعرفُ ما الموتُ
وأزجِ اهتمامكَ للموتِ
تعرفُ ما الحيّ

في الطريق الذي جئتَ منهُ
قبورٌ لأحياء ماتوا
لتأتي 
كما ستموت 
ليأت الذين وراءك في الدرب
فلا تنسَ: في الموتى جذورك

لا تتهاوَن بموتكَ
ولا تتهاون بموت أحد
ولا تنسَ روحك
لأنّ العصرَ يريدُ اصطيادكَ في فخّهِ
ليستعبدك
فحرّر جناحيكَ يا طائرَ الحقِّ
وأدرك حياتك
كي لا تضيعَ سُدىً في المهالك
ولا تشتعل بالحريقِ المزّيفِ 
عن ناركَ الصادقة.

الأربعاء، 13 يونيو 2018

من الوحش؟


من الوحش؟

صورة رشاد الوهيبي


بغمت النوق، قبعت الخيل، خارت الأبقار، ثغت الجداء والشياه والكِباشُ والجَعَد، نهقت الحمُر، شحجت البغال، قأقأت الدجاج،

في كل صوتٍ
نغمة حزينة
عميقة وغامضة
ترسمُ سطراً جديداً 
في أكبر الملاحم التراجيدية.

كائنات سماوية
تمثيل حيّ لملائكة عطوفين
آلهة قديمة مقدسة
تجلت بلا مراء
متخفية في هذه الأسمال.

سرتُ بين قطعان الأرواح الرطبة
هي راعيتي
أنا هائمٌ أعبرُ سبيل الحياة 
مثلها

دلفنا معاً أبواب الزمن الخلفية
في الطرقات التي قطعناها
رأيتُ أنهار الدماء المسفوحة
تسيل عبر السنين
مذ ذبح الإنسان رحمته.

ما زالت الحيوانات هنا
تقدم أجسادها
رغم الألم والموت
جسراً لإدراك القلب المُغيَّب.

الكائن الجاهل الخطّاء
لم يصل إلى الله 
الذي في قلبه
بعد.

يلعن قابيل 
ويتبع خطاه.

أنا هنا 
مولود جديد
رضيعٌ أليف آخر
للألم وانبثاق الدماء الحارّة.

جسدٌ لطفولة الطبيعة
أهرب من دروب الأقدار المقفلة 
الزلقة بالدماء
إلى المسلخ البشري.

مهما فعلت
أسقط في النهاية
قرب العيد
أُذبَحُ ويُطبخُ جسمي
تتقاسم جسدي الأفواه
الولائم تقطِّعُني بأسنانها
واللحمُ يأكلُ اللحم.

أنا الرفيق المغدور
خانني الحامي
قتلني الراعي
أنا الإبنة المذبوحة
الأمُّ المرضعةُ التي باعها الرُّضع.

حزن الرعاة في المواسم
كآباتهم 
نكزة صغيرة
من ألم المستقبل الهائل.

قصيدتي طلب غفران
وردة دم
باقة قلب
نجوى روحية
إلى كل النظرات النبيهة
في عيون الأنعام.

الحيوانات المغدورة
الرفقة السجينة
الأصدقاء المساجين
المحبة المدماة
خناجر الصداقات
وسكاكين الرفاق.

كم اثما ترتكب أيها القلب
كم سوطاً من سيطان الألم
رائحةُ وسوم الملكية الحراقة
على الجلود
تخنقُ الهواء
في سجون الحيوانات.
****

القانون السماوي
يصرِّحُ بالانتقام
تسطعُ حكمةُ الأقدار
تنتقم الطبيعةُ الباطشة
للطبيعة المستكينة.

ينسجن السجان
يخدم المخدوم
يُستعبد عقل السيد
ويؤكل الآكل
ثأراً صامتاً
لقلوب الأمهات ومذابح الرضع
الوحوش البشرية
ذاقت الدم
فاستيقظت شهوة الحروب.

ها أنا ذا
أقف هنا
عند هذه الحافة الحزينة
أنتظر خروجك أيها الإنسان 
من حفرة نفسك
متحرراً من أغلال وادي عذاباتك
عندما تدرك نبالة الكائنات الهادئة
صبرها الطويل
مقاومتها العظيمة الساكنة 
وسموها فوق ألاعيبك الحقيرة. 

تمسكتْ بمنتهى الصبر
تقدمت بكل شجاعة
أضاحيَ للرفقة الدامية.

رأيتها تحاول الصعب
تستحلب العطف
لآخر لحظة
كل مرة.

في القلوب الموحشة
تحاول زراعة عشب الرحمة
وترعى مع قطعانه في الوجود.

أراها أراها
عبر براري الأزمنة الشاسعة
تقدم حياتها
لمذبح مهمةٍ ملائكية غامضة
حتى على ناي أشعار الرعاة
الساكنين قرب الآلام.

أصوات الصباح
في الحظائر
أجراسٌ فموية
تنادي الطلاب الجهلة
إلى الدرس اليومي
لهدوء الكائن الأصيل.

منتهى حكمة الحكماء
ساكنة عبر أجيالٍ وأجيال
هذه الحيوانات النبيلة الصبورة
تسفح دمها وحياتها 
على مذابح الإحساس الوثنية.

أطعمته جسدها
تعالت على ذاتها وغريزتها 
داست قدراتها الهائلة
استسلمت بسكون أخاذ 
لجهل قوة الإنسان 
لحماقة عنفه 
لرعونة طبعه 
لخياناته الصغيرة
وتفاهة رغباته
باذلة وسعها
وكل جهدها
مفنيةً نفسها
كي تلفت عيونه المُغَيّبة 
ولو مرة حقيقية واحدة
لعيونها السامية.

أرضعته ألبانها
أطعمتهُ ذاتها
ألبسته صوفها
أسكنته شعرها
أركبته ظهرها
كأمهات الوجود الأسطوريات
وهو يجازيها 
كابنٍ عاق ملعون.

ربما يأتي يومٌ ما
تتجمع فيه قطرات الرحمة
خيطاً يلمس القلوب
يعي به الإنسان
ذلك المغزى الأبكم
وتتحدر الدموع السخينة
لتُطهِّره.

ربما يوماً ما
يصغي الناس فعلاً
إلى نصيحة أنبياء الشرق
ويبتعدون عن الخطيئة.

إلى ذلك اليوم
أيتها النوق المدهشة
أيتها الأبقار المباركة
والخراف والشياه الكريمة
لم يبق شيء لم تفديه به.

وأنت أيتها الحمير الصبورة
وكلاب الحنان
والقطط العزيزة النفس
تشاركين مسيرة الوعي الشقي.

قصيدتي تتبارك 
بلمس آلامك النبيلة
والسير حذاء آثارك
في طريق الحياة المقدسة.