الأحد، 14 سبتمبر 2014

هل ستهرب يا سقراط؟

لوحة منقولة من كتاب عربي تظهر سقراط وتلامذته تعود للقرن الثامن الهجري الثالث عشر ميلادي
لماذا لا تهرب يا سقراط؟

  محاورة أقريطون: لماذا لا تثور يا سقراط وتهرب من السجن؟
الوضع: أقريطون يزور سقراط في سجن أثينا
سبب سجن سقراط: الحكم الصادر بإعدام سقراط في القضية التي رفعها كلٌ من الشاعر مليتس والتاجر السياسي أنيتس والخطيب ليقون والتي اتهموه فيها بتهمٍ هي: الإلحاد، ابتداع آلهة جديدة، إفساد الشباب..
ما قبل القضية: عرض المسرحي الشهير ارسطوفان مسرحية ساخرة عن  سقراط، أضحكت أهل أثينا، وبعدها مباشرة تقدم الثلاثة بدعواهم للمحكمة.
المصدر: آخر محاورات سقراط حسب أفلاطون وهي الرباعية المكونة من محاورة أوطيفرون وهو رجل دين حاوره سقراط حول التقوى وطاعة الآلهة قرب محكمة أثينا، محاورة الدفاع وهي مكونة من دفاع سقراط عن نفسه والتي بسط فيها بشكل مختصر سيرة حياته وأهدافه، محاورة أقريطون التي سنختصرها هنا، محاورة فيدون وهي عن الموت ومصير الأرواح بعد الموت.. نقلاً عن كتاب محاورات أفلاطون ترجمة زكي نجيب محمود المركز القومي للترجمة 2012م
 
كتاب محاورات أفلاطون 2012
تمهيد:
قضية سقراط تبدأ من مسرحية الكاتب المسرحي الشهير أرسطوفان عن سقراط، حيث بعد تلك المسرحية الهزلية والساخرة اتفق كل من الشاعر مليتس والتاجر والسياسي آنيتس والخطيب ليقون على رفع دعوى ضد سقراط، وكأن تلك المسرحية كانت تمهيداً شعبياً لكل الأحداث اللاحقة في حياة سقراط، وكان سقراط أيامها في آخر عمره، وقد بلغ السبعين تقريباً، وقد تم تناول هذه القضية والمحاورات في أعمال فنية عديدة أشهرها عربياً مسرحية منصور الرحباني (آخر أيام سقراط) وهناك كتب وأعمال فنية وأفلام غربية وعالمية كثيرة عن تلك الحادثة..
ملصق مسرحية منصور الرحباني آخر أيام سقراط


جرى الحدث نفسه في العام 399 ق.م أي منذ أكثر من 2413 سنة، والحادثة هي من أقسى الاختبارات التي يمكن أن يتعرض له الحكماء، فقد كان على سقراط الاختيار بين مبادئه وقناعاته وبين حياته، وقد اختار سقراط المبادئ ولذلك تم إعدامه..
قراءة هذه المحاورات الأربع من بين كل محاورات سقراط تضع أمام القارئ خلاصة التجربة، فالاختبار صادم ومميت، والاختيار سهل، وكان هناك دائماً مخرج لسقراط، لكنه ظل متمسكاً بمبادئه ورمزيتها على أي شيء آخر.

ماذا لو حكمت عليك المحكمة ظلماً وأنت تعلم أنك برئ، هل يحق لك الهرب والثورة؟ وماذا لو وقع عليك الظلم من الدولة، هل يحق لك أن تعلن الثورة ضدها وترفض تنفيذ أوامرها وتخرج عليها؟
السؤال مفصلي، ودارت حوله نقاشات عديدة، وصلت حتى حدود الفقه والمذاهب، في هل يحق الخروج على الحاكم الظالم، هنا سأعرض دون أي تدخل مني ما ردّ به سقراط على أقريطون، وأقريطون هو صديق عزيز جداً على سقراط وأحد تلامذته في نفس الوقت، وهذه المحاورة هي التي تجري في السجن قبل ثلاثة أيام من تنفيذ الحكم، وفيها يحدد سقراط موقفهُ من الدولة والقوانين وذلك بناءاً على مبادئه الأولية حول الخير والشر..
لغرض النشر قمت بتحرير المادة بتصرف مني كي يتمكن القارئ من متابعة الحوارات، ومن أراد الاستزادة حول هذه المحاورة وغيرها يمكنه العودة للنسخة الأصلية للمحاورات في متن الكتاب المذكور أعلاه 
إعدام سقراط للفرنسي جاك لويس دافيد ق 19م


  محاورة أقريطون

سجن أثينا في فجر أحد الأيام من عام 399 ق.م

أقريطون: مزاجك الهادئ لا زال كما هو، فكيف لا تضطرب للمصيبة القادمة؟

سقراط:
في الثمانين يا أقريطون لا يبدو الموت مخيفاً، البارحة جاءتني في الحلم رؤيا امرأة جميلة في ثياب بيضاء، وقالت لي: أنت ذاهبٌ إلى أخراك في اليوم الثالث يا سقراط.
أقريطون:
أتوسل إليك مرة أخرى يا سقراط أن تهرب، أينما ذهبت سيوقرك الناس ويحترمونك، ليس في أثينا وحدها بل حتى في تساليا، لدي أصدقاء هناك وسيضعونك في مقام كريم، لماذا لا تهرب يا سقراط، هؤلاء الدهماء يريدون إنزال أفدح المصائب بك، لماذا تلعب بحياتك هكذا، هل تخاف على أصدقائك إن هربت؟ لن يصيبنا أخطر من فقدك، لمن تترك أبنائك وأسرتك يا سقراط؟ ألا تناديك رجولتك كي لا تتركهم للأقدار؟ وماذا سيظن بنا الناس نحن أصدقائك إن تركناك هكذا؟ إلا التخاذل والخور والضعف، هيا يا سقراط هذا المساء سأدبر كل شيء، الحراس ينتظرون إشارة ذهبية صغيرة ويستطيعون تدبير هربك، بعض المال يفي يا سقراط وتصبح غداً خارج هذا السجن، أتوسل إليك يا سقراط لتهرب، لا تستسلم لا تضعف أمام الظلم، كيف توافق الظلم على ما يريده؟
سقراط:
لماذا نعتني بحديث الدهماء يا أقريطون، أما الحكماء فسيرون فيما فعلتُ الصواب، ورأيهم وحده جدير بالاعتبار، الدهماء عاجزون عن فعل الخير والشر، أفعالهم وليدة المصادفة، وأنا سأتبع حماستك يا أقريطون إلى الحق لكن لن أتبع حماستك للباطل، حيث كلما ازدادت الحماسة ازداد الأمر سوءاً.
تعال نرجع إلى دليل العقل، إلى مبادئنا التي علينا أن نجلّها ونقدسها.
دعنا لا نصغي لكلام الناس، حتى لو زادنا الناس تخويفاً وتعذيباً وإرهاباً بالشياطين،
لأن ما يراه الحكماء وحده خير، وما يرى الجهلة شر..
قل لي ما الحياة إذا فسد منا أسمى ما فينا، الذي يحيا بالعدالة ويفسده الظلم؟
تعال نصغي لحكم الحقيقة،
الحياة التي ليست حياة خير قبل كل شيء لا تستحق التقدير،
لا نفعل الخير لأنهُ ينفعنا ولا نبتعد عن الشر لأنه يضرنا، بل نحن مع الخير لأننا نؤمن أن الخير هو محور الحياة، والجور والضر شرّ مهما رأى الجهلاء، ومهما كانت النتائج، نحن الذين حين يصيبنا ضر لا نرد بضرر، لأن الضر ليس خيراً ولا عدلاً.
لا نأخذ بالثأر حتى لو لم يأخذ الناس كلهم برأينا إلى آخر العالم،
لأننا نؤمن بالخير نرى أن إيقاع الضر والأخذ بالثأر شر، ولا نرد الشر بالشر، وذلك ما نراه الخير.
ذلك مذهبي يا إقريطون، فهل أخطئ في حق المبادئ التي عليّ أن لا أسيء إليها؟!
ألا أدوس مبادئي بالثورة والهرب؟!
ماذا لو هممت بالهرب والثورة وجاءتني القوانين تسألني..

القوانين:
ماذا أنت فاعل أيها الحكيم؟ أين تذهب يا سقراط؟ أتريد هز كياننا وتحطيم أسس الدولة؟ تلك الماثلة في شخصك؟ ماذا فعلت بك القوانين والدولة من شر؟ وأي خيرٍ تريده في عصيانها؟ أم تراك تتصور دولة ضعيفة القوانين، ليس لها قوة، يرفض الشعب تنفيذ قوانينها فكيف تقوم تلك الدولة؟ عندما يكون جمال القوة واسعاً لكل إنسان كي يرى الشر الذي ينجم حين تضعف القوانين؟
سقراط:
بماذا نجيب القوانين يا أقريطون؟ أنجيب بأن الدولة آذتنا، ظلمتنا في قضائها، سلطت علينا حراسها، لكن هل ستسكت القوانين عندها يا أقريطون؟
القوانين:
أين عهدك معنا الذي يلزمك أن تصدع بما حكمت به الدولة؟
ما شكواك يا سقراط التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معا؟
ألم نأتِ بك إلى الوجود نحن القوانين وهذه الدولة؟!
ألم يتزوج أبوك بأمك بعوننا ووفقنا فأنجبناك؟
ألم تترعرع تحت ظل قوانين الصحة والتغذية والتربية والتعليم، ألم تلزم القوانين أباك وأمك ليتعهداك رعايةً وتعليماً وتثقيفاً بالعلم والموسيقى والرياضة؟!
أتينا بك إلى العالم، وأطعمناك وأنشأناك فهل تجحد هذا؟
أنت ابننا يا سقراط كما كان آباؤك؟ فلسنا سواسية، وليس من حقك أن تفعل بنا ما نفعل بك، مثلما لا حق لك في أن تعتدي على أبيك وأمك بالضرب والشتم والسوء إن هما ضرباك أو شتماك.
وإذا رأينا من الصواب إعدامك فهل من حقك أن تعدمنا؟ وأن تجازي وطنك بمقدار ما يفعل فيك؟
يا أستاذ الفضيلة أين ما يبررك؟
ألا يرى الفيلسوف أن الوطن أخلق بالتقدير وأسمى جداً وأقدس من أم وأب وأسلاف، أليس الوطن أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة والحكماء؟
إذا غضب الوطن وجب أن تهدئ من ثورته.
أن تلاقيه وادعاً خاشعاً أكثر من الوالد.
إن تعذّر إقناع الوطن وجبت طاعته.
إن نالنا من الوطن عقاب بالسجن نحتمل الجزاء في صمت.
إن ساقنا إلى حومة الوغى والحرب حيث الجراح والموت ننصاع له باعتباره مصيباً ولا نستسلم أو نتقهقر.
على الإنسان أن يصدع بما يأمره به الوطن في ساحة الحرب مثلما في ساحة القانون.
وإذا كان حراماً أن نقسو على الأب والأم فحرام أن نقسو على الوطن، وكما نرحم الوالدين نرحمه.

سقراط:
أهي صادقة هذه القوانين يا أقريطون أم ليست صادقة؟

القوانين:
كان من حقك إذا لم نعجبك نحن القوانين ولم تعجبك الدولة أن ترحل حيث شئت وتهاجر، نحن القوانين لم نمنعك من ذلك، ومن عرفنا وعرف أسسنا وميزها وعرف كيف تدار الدولة ورضي الإقامة فقد وافقنا وعاهدنا وتعاقد معنا ضمناً أنه يفعل ما نأمره به، فمن عصانا أخطأ لأنهُ عصى والديه بعصياننا، لأننا ربيناه وعصانا، ولأنه نكث عهد الطاعة، ولا أطاعنا ولا أقنعنا أننا على خطأ، ونحن القوانين لا نفرض أنفسنا فرضاً غاشماً، بل نخيّر الإنسان إما طاعتنا وإما إقناعنا.
وأنت يا سقراط قدمت كل برهان أننا لم نعكر صفو عيشك، كنت أكثر الناس إقامة في المدينة لم تغادرها، لم تسافر كما سافر الناس، لم تغادر المدينة إلا في خدمة الجيش، غير مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ البحري في كورنث، عند جزر البلقان، وذلك لأنك اختصصتنا بحبك، لم تجاوزنا به، وكنا أصفياءك ورضيت أن نحكمك، هذه هي الدولة ونحن القوانين التي وضعت فيها عقبك وأنجبت أبناؤك، فهل من دليل أقوى من ذلك على رضاك؟
وأنت في المحكمة آثرت الموت على النفي، ولم تبتئس بالموت، لكن ها أنت ذا نسيت كل تلك العواطف الجميلة وتريد الهرب والثورة ضدنا، ترفض أن تخدمها وتحترمنا، لتهرب كالعبد الخسيس من عقودنا ومواثيقنا التي قطعتها على نفسك كمواطن.
أتنفض العهود التي اخترتها؟ ثمانين عاماً تفكر في ظلها، فأي خيرٍ تقدمه لنفسك أو لأصدقائك إن هربت وثرت علينا؟
سيشرد أصدقاؤك وينفون أو يسجنون، ويفقدون أموالهم وتصادر، وأنت ستدخل المدن عدواً وينظر إليك أهلها الوطنيون نظرة شر، لأنك هادم القوانين الثائر عليها، وعندها سيقر في عيون قضاتك أنهم كانوا عادلين، لأن مفسد القوانين مفسد الشباب كما اتهمك خصومك.
أي وجودٍ حقيقي سيكون لك على تلك الحال؟
هل ستحدث الشباب هناك عن الفضيلة والعدالة والقوانين التي من أكبر النعم؟
أيكون ذلك جميلاً منك وأنت الذي فررت من الدولة ذات الحكم الجائر إلى تساليا عند أصدقاء أقريطون، تساليا حيث لا قوانين، حيث الإباحية والفوضى؟ قد تمتعهم قصة هروبك، لكن دوماً ستجد من يذكرك بأنك نقضت أشد القوانين تقديساً من أجل رغبة حقيرة في استزادة حياةٍ ضئيلة.
وأين عواطفك الجميلة عن العدل والفضيلة؟
أصدقاؤك الحقيقيون سيعتنون بأبنائك إذا كانوا حقاً أصدقائك.
لكن لا تفكر في الحياة والأبناء أولاً وفي العدل آخراً بل فكر في العدل أولاً.
ولو هربت وثرت لن تكون أسعد وأقدس أو أعدل في هذه الحياة ولا في الحياة الأخرى.
فتقدم مجاهداً بريئاً بلا رذيلة، ضحيةً للناس لا ضحية للقوانين..

سقراط:
هذا هو الصوت يا أقريطون، يهمس في سمعي كنغمات القيثارة في أذن المتصوف. يدوي في أذني فلا أسمع سواه، وكل ما ستقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح،
ومع هذا تكلم..
أقريطون:
ليس لدي ما أقوله يا سقراط.
سقراط:
إذن دعني أتبع ما توحي به إرادة الله..

منحوتة موت سقراط للروسي مارك انتكولسكي 1875م

نهاية المحاورة..



هكذا تنتهي محاورة أقريطون وهي غنية عن أي تعليق. تنعكس فوق كل الأزمنة، تضيء الطريق المظلم بالعلامات، حتى لا يخلط السالكون في دربهم بين الخير والشر..