الخميس، 6 نوفمبر 2014

قهوة الله

صدور قهوة الله
لوحة الغلاف للفنان البحريني جمال عبدالرحيم

أن يصدر لك كتاب أمرٌ مفرح طبعاً، لكنهُ ورطة وجودية مطبقة، عليك أن تستسلم لحدوثها، نوع من القيود التي لا يمكن فكها، مهما كان موضوع الكتاب ونصه، أو بمعزل تماماً عن موضوع الكتاب ونصه..

الأحد، 14 سبتمبر 2014

هل ستهرب يا سقراط؟

لوحة منقولة من كتاب عربي تظهر سقراط وتلامذته تعود للقرن الثامن الهجري الثالث عشر ميلادي
لماذا لا تهرب يا سقراط؟

  محاورة أقريطون: لماذا لا تثور يا سقراط وتهرب من السجن؟
الوضع: أقريطون يزور سقراط في سجن أثينا
سبب سجن سقراط: الحكم الصادر بإعدام سقراط في القضية التي رفعها كلٌ من الشاعر مليتس والتاجر السياسي أنيتس والخطيب ليقون والتي اتهموه فيها بتهمٍ هي: الإلحاد، ابتداع آلهة جديدة، إفساد الشباب..
ما قبل القضية: عرض المسرحي الشهير ارسطوفان مسرحية ساخرة عن  سقراط، أضحكت أهل أثينا، وبعدها مباشرة تقدم الثلاثة بدعواهم للمحكمة.
المصدر: آخر محاورات سقراط حسب أفلاطون وهي الرباعية المكونة من محاورة أوطيفرون وهو رجل دين حاوره سقراط حول التقوى وطاعة الآلهة قرب محكمة أثينا، محاورة الدفاع وهي مكونة من دفاع سقراط عن نفسه والتي بسط فيها بشكل مختصر سيرة حياته وأهدافه، محاورة أقريطون التي سنختصرها هنا، محاورة فيدون وهي عن الموت ومصير الأرواح بعد الموت.. نقلاً عن كتاب محاورات أفلاطون ترجمة زكي نجيب محمود المركز القومي للترجمة 2012م
 
كتاب محاورات أفلاطون 2012
تمهيد:
قضية سقراط تبدأ من مسرحية الكاتب المسرحي الشهير أرسطوفان عن سقراط، حيث بعد تلك المسرحية الهزلية والساخرة اتفق كل من الشاعر مليتس والتاجر والسياسي آنيتس والخطيب ليقون على رفع دعوى ضد سقراط، وكأن تلك المسرحية كانت تمهيداً شعبياً لكل الأحداث اللاحقة في حياة سقراط، وكان سقراط أيامها في آخر عمره، وقد بلغ السبعين تقريباً، وقد تم تناول هذه القضية والمحاورات في أعمال فنية عديدة أشهرها عربياً مسرحية منصور الرحباني (آخر أيام سقراط) وهناك كتب وأعمال فنية وأفلام غربية وعالمية كثيرة عن تلك الحادثة..
ملصق مسرحية منصور الرحباني آخر أيام سقراط


جرى الحدث نفسه في العام 399 ق.م أي منذ أكثر من 2413 سنة، والحادثة هي من أقسى الاختبارات التي يمكن أن يتعرض له الحكماء، فقد كان على سقراط الاختيار بين مبادئه وقناعاته وبين حياته، وقد اختار سقراط المبادئ ولذلك تم إعدامه..
قراءة هذه المحاورات الأربع من بين كل محاورات سقراط تضع أمام القارئ خلاصة التجربة، فالاختبار صادم ومميت، والاختيار سهل، وكان هناك دائماً مخرج لسقراط، لكنه ظل متمسكاً بمبادئه ورمزيتها على أي شيء آخر.

ماذا لو حكمت عليك المحكمة ظلماً وأنت تعلم أنك برئ، هل يحق لك الهرب والثورة؟ وماذا لو وقع عليك الظلم من الدولة، هل يحق لك أن تعلن الثورة ضدها وترفض تنفيذ أوامرها وتخرج عليها؟
السؤال مفصلي، ودارت حوله نقاشات عديدة، وصلت حتى حدود الفقه والمذاهب، في هل يحق الخروج على الحاكم الظالم، هنا سأعرض دون أي تدخل مني ما ردّ به سقراط على أقريطون، وأقريطون هو صديق عزيز جداً على سقراط وأحد تلامذته في نفس الوقت، وهذه المحاورة هي التي تجري في السجن قبل ثلاثة أيام من تنفيذ الحكم، وفيها يحدد سقراط موقفهُ من الدولة والقوانين وذلك بناءاً على مبادئه الأولية حول الخير والشر..
لغرض النشر قمت بتحرير المادة بتصرف مني كي يتمكن القارئ من متابعة الحوارات، ومن أراد الاستزادة حول هذه المحاورة وغيرها يمكنه العودة للنسخة الأصلية للمحاورات في متن الكتاب المذكور أعلاه 
إعدام سقراط للفرنسي جاك لويس دافيد ق 19م


  محاورة أقريطون

سجن أثينا في فجر أحد الأيام من عام 399 ق.م

أقريطون: مزاجك الهادئ لا زال كما هو، فكيف لا تضطرب للمصيبة القادمة؟

سقراط:
في الثمانين يا أقريطون لا يبدو الموت مخيفاً، البارحة جاءتني في الحلم رؤيا امرأة جميلة في ثياب بيضاء، وقالت لي: أنت ذاهبٌ إلى أخراك في اليوم الثالث يا سقراط.
أقريطون:
أتوسل إليك مرة أخرى يا سقراط أن تهرب، أينما ذهبت سيوقرك الناس ويحترمونك، ليس في أثينا وحدها بل حتى في تساليا، لدي أصدقاء هناك وسيضعونك في مقام كريم، لماذا لا تهرب يا سقراط، هؤلاء الدهماء يريدون إنزال أفدح المصائب بك، لماذا تلعب بحياتك هكذا، هل تخاف على أصدقائك إن هربت؟ لن يصيبنا أخطر من فقدك، لمن تترك أبنائك وأسرتك يا سقراط؟ ألا تناديك رجولتك كي لا تتركهم للأقدار؟ وماذا سيظن بنا الناس نحن أصدقائك إن تركناك هكذا؟ إلا التخاذل والخور والضعف، هيا يا سقراط هذا المساء سأدبر كل شيء، الحراس ينتظرون إشارة ذهبية صغيرة ويستطيعون تدبير هربك، بعض المال يفي يا سقراط وتصبح غداً خارج هذا السجن، أتوسل إليك يا سقراط لتهرب، لا تستسلم لا تضعف أمام الظلم، كيف توافق الظلم على ما يريده؟
سقراط:
لماذا نعتني بحديث الدهماء يا أقريطون، أما الحكماء فسيرون فيما فعلتُ الصواب، ورأيهم وحده جدير بالاعتبار، الدهماء عاجزون عن فعل الخير والشر، أفعالهم وليدة المصادفة، وأنا سأتبع حماستك يا أقريطون إلى الحق لكن لن أتبع حماستك للباطل، حيث كلما ازدادت الحماسة ازداد الأمر سوءاً.
تعال نرجع إلى دليل العقل، إلى مبادئنا التي علينا أن نجلّها ونقدسها.
دعنا لا نصغي لكلام الناس، حتى لو زادنا الناس تخويفاً وتعذيباً وإرهاباً بالشياطين،
لأن ما يراه الحكماء وحده خير، وما يرى الجهلة شر..
قل لي ما الحياة إذا فسد منا أسمى ما فينا، الذي يحيا بالعدالة ويفسده الظلم؟
تعال نصغي لحكم الحقيقة،
الحياة التي ليست حياة خير قبل كل شيء لا تستحق التقدير،
لا نفعل الخير لأنهُ ينفعنا ولا نبتعد عن الشر لأنه يضرنا، بل نحن مع الخير لأننا نؤمن أن الخير هو محور الحياة، والجور والضر شرّ مهما رأى الجهلاء، ومهما كانت النتائج، نحن الذين حين يصيبنا ضر لا نرد بضرر، لأن الضر ليس خيراً ولا عدلاً.
لا نأخذ بالثأر حتى لو لم يأخذ الناس كلهم برأينا إلى آخر العالم،
لأننا نؤمن بالخير نرى أن إيقاع الضر والأخذ بالثأر شر، ولا نرد الشر بالشر، وذلك ما نراه الخير.
ذلك مذهبي يا إقريطون، فهل أخطئ في حق المبادئ التي عليّ أن لا أسيء إليها؟!
ألا أدوس مبادئي بالثورة والهرب؟!
ماذا لو هممت بالهرب والثورة وجاءتني القوانين تسألني..

القوانين:
ماذا أنت فاعل أيها الحكيم؟ أين تذهب يا سقراط؟ أتريد هز كياننا وتحطيم أسس الدولة؟ تلك الماثلة في شخصك؟ ماذا فعلت بك القوانين والدولة من شر؟ وأي خيرٍ تريده في عصيانها؟ أم تراك تتصور دولة ضعيفة القوانين، ليس لها قوة، يرفض الشعب تنفيذ قوانينها فكيف تقوم تلك الدولة؟ عندما يكون جمال القوة واسعاً لكل إنسان كي يرى الشر الذي ينجم حين تضعف القوانين؟
سقراط:
بماذا نجيب القوانين يا أقريطون؟ أنجيب بأن الدولة آذتنا، ظلمتنا في قضائها، سلطت علينا حراسها، لكن هل ستسكت القوانين عندها يا أقريطون؟
القوانين:
أين عهدك معنا الذي يلزمك أن تصدع بما حكمت به الدولة؟
ما شكواك يا سقراط التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معا؟
ألم نأتِ بك إلى الوجود نحن القوانين وهذه الدولة؟!
ألم يتزوج أبوك بأمك بعوننا ووفقنا فأنجبناك؟
ألم تترعرع تحت ظل قوانين الصحة والتغذية والتربية والتعليم، ألم تلزم القوانين أباك وأمك ليتعهداك رعايةً وتعليماً وتثقيفاً بالعلم والموسيقى والرياضة؟!
أتينا بك إلى العالم، وأطعمناك وأنشأناك فهل تجحد هذا؟
أنت ابننا يا سقراط كما كان آباؤك؟ فلسنا سواسية، وليس من حقك أن تفعل بنا ما نفعل بك، مثلما لا حق لك في أن تعتدي على أبيك وأمك بالضرب والشتم والسوء إن هما ضرباك أو شتماك.
وإذا رأينا من الصواب إعدامك فهل من حقك أن تعدمنا؟ وأن تجازي وطنك بمقدار ما يفعل فيك؟
يا أستاذ الفضيلة أين ما يبررك؟
ألا يرى الفيلسوف أن الوطن أخلق بالتقدير وأسمى جداً وأقدس من أم وأب وأسلاف، أليس الوطن أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة والحكماء؟
إذا غضب الوطن وجب أن تهدئ من ثورته.
أن تلاقيه وادعاً خاشعاً أكثر من الوالد.
إن تعذّر إقناع الوطن وجبت طاعته.
إن نالنا من الوطن عقاب بالسجن نحتمل الجزاء في صمت.
إن ساقنا إلى حومة الوغى والحرب حيث الجراح والموت ننصاع له باعتباره مصيباً ولا نستسلم أو نتقهقر.
على الإنسان أن يصدع بما يأمره به الوطن في ساحة الحرب مثلما في ساحة القانون.
وإذا كان حراماً أن نقسو على الأب والأم فحرام أن نقسو على الوطن، وكما نرحم الوالدين نرحمه.

سقراط:
أهي صادقة هذه القوانين يا أقريطون أم ليست صادقة؟

القوانين:
كان من حقك إذا لم نعجبك نحن القوانين ولم تعجبك الدولة أن ترحل حيث شئت وتهاجر، نحن القوانين لم نمنعك من ذلك، ومن عرفنا وعرف أسسنا وميزها وعرف كيف تدار الدولة ورضي الإقامة فقد وافقنا وعاهدنا وتعاقد معنا ضمناً أنه يفعل ما نأمره به، فمن عصانا أخطأ لأنهُ عصى والديه بعصياننا، لأننا ربيناه وعصانا، ولأنه نكث عهد الطاعة، ولا أطاعنا ولا أقنعنا أننا على خطأ، ونحن القوانين لا نفرض أنفسنا فرضاً غاشماً، بل نخيّر الإنسان إما طاعتنا وإما إقناعنا.
وأنت يا سقراط قدمت كل برهان أننا لم نعكر صفو عيشك، كنت أكثر الناس إقامة في المدينة لم تغادرها، لم تسافر كما سافر الناس، لم تغادر المدينة إلا في خدمة الجيش، غير مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ البحري في كورنث، عند جزر البلقان، وذلك لأنك اختصصتنا بحبك، لم تجاوزنا به، وكنا أصفياءك ورضيت أن نحكمك، هذه هي الدولة ونحن القوانين التي وضعت فيها عقبك وأنجبت أبناؤك، فهل من دليل أقوى من ذلك على رضاك؟
وأنت في المحكمة آثرت الموت على النفي، ولم تبتئس بالموت، لكن ها أنت ذا نسيت كل تلك العواطف الجميلة وتريد الهرب والثورة ضدنا، ترفض أن تخدمها وتحترمنا، لتهرب كالعبد الخسيس من عقودنا ومواثيقنا التي قطعتها على نفسك كمواطن.
أتنفض العهود التي اخترتها؟ ثمانين عاماً تفكر في ظلها، فأي خيرٍ تقدمه لنفسك أو لأصدقائك إن هربت وثرت علينا؟
سيشرد أصدقاؤك وينفون أو يسجنون، ويفقدون أموالهم وتصادر، وأنت ستدخل المدن عدواً وينظر إليك أهلها الوطنيون نظرة شر، لأنك هادم القوانين الثائر عليها، وعندها سيقر في عيون قضاتك أنهم كانوا عادلين، لأن مفسد القوانين مفسد الشباب كما اتهمك خصومك.
أي وجودٍ حقيقي سيكون لك على تلك الحال؟
هل ستحدث الشباب هناك عن الفضيلة والعدالة والقوانين التي من أكبر النعم؟
أيكون ذلك جميلاً منك وأنت الذي فررت من الدولة ذات الحكم الجائر إلى تساليا عند أصدقاء أقريطون، تساليا حيث لا قوانين، حيث الإباحية والفوضى؟ قد تمتعهم قصة هروبك، لكن دوماً ستجد من يذكرك بأنك نقضت أشد القوانين تقديساً من أجل رغبة حقيرة في استزادة حياةٍ ضئيلة.
وأين عواطفك الجميلة عن العدل والفضيلة؟
أصدقاؤك الحقيقيون سيعتنون بأبنائك إذا كانوا حقاً أصدقائك.
لكن لا تفكر في الحياة والأبناء أولاً وفي العدل آخراً بل فكر في العدل أولاً.
ولو هربت وثرت لن تكون أسعد وأقدس أو أعدل في هذه الحياة ولا في الحياة الأخرى.
فتقدم مجاهداً بريئاً بلا رذيلة، ضحيةً للناس لا ضحية للقوانين..

سقراط:
هذا هو الصوت يا أقريطون، يهمس في سمعي كنغمات القيثارة في أذن المتصوف. يدوي في أذني فلا أسمع سواه، وكل ما ستقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح،
ومع هذا تكلم..
أقريطون:
ليس لدي ما أقوله يا سقراط.
سقراط:
إذن دعني أتبع ما توحي به إرادة الله..

منحوتة موت سقراط للروسي مارك انتكولسكي 1875م

نهاية المحاورة..



هكذا تنتهي محاورة أقريطون وهي غنية عن أي تعليق. تنعكس فوق كل الأزمنة، تضيء الطريق المظلم بالعلامات، حتى لا يخلط السالكون في دربهم بين الخير والشر..

الاثنين، 26 مايو 2014

في ذكرى أبي العلاء المعري الطائر الغريب


أبو العلاء المعري 
الطائر الغريب
النص السمعي على الإذاعة العمانية في برنامج ضفاف لصالح العامري


لمحة غرائبية، شيءٌ ما في مملكة الأشياء الفائضة عن مملكة اللغويات، شأنٌ أكبر من الكلمات، أمرٌ تشي بهِ التعابير لكن تعجزُ عن إمساكه، تشعرُ به القلوب، بثغرة غيابه في الجُمَل، وفراغ مكانه في الفقرات..

دع زمناً طويلاً يمر ليمكن للمارة في جادة الحياة إبصار أبي العلاء المعري جيداً..

حياةٌ استثنائية في عوالمِ معجزات العميان، الصبا الصغير اغتالهُ العمى،
لكن انطفاء العينين كان إشعالاً، احتكاكُ حجري زندٍ لإطلاق شرارِ الحياة التي يمكن إبصارها حتى اليوم واسمها هو نفسه: أبو العلاء المعري..

( يكررني ليفهمني رجالٌ كما كررتَ معنىً مستعادا/ كأني في لسانِ الدهرِ لفظٌ تضمّنَ منهُ أغراضاً بعادا)

بمرور الزمن يصبحُ المعري أكثر من معنى، يخرجُ عالَمٌ ويأتي عالَمٌ، تختلفُ أزمنةٌ في نفسِ الزمن، وصوتهُ رفيعٌ وعالٍ، يُطلقُ أذاناً موقّعاً يذمّ عصراً، يحنُّ إلى صبا شباب، يمسكُ دهراً ويسِمهُ بميسمِ الكلمات الحارة.



شمعة موقدة منذ إحدى وأربعين وألف سنة، النظر إليها يحتاجُ قراءةً متمهلة: شعاعاً شعاعاً، قطرةً قطرة، كل شعاع درجةٌ في سلمٍ ممتد من الأعماق المظلمة، حيث تتشابه أشباح الملائكة والجن،
مجرد حركة صامتة في الظلام،
إلى السماء النجمية، حيث النور والنار صوتٌ واحد.

( قد عشتُ عمراً طويلاً ما علمت بهِ حساً يُحسّ لجنيٍّ ولا ملك/ والملك لله  ما ضاعت أكابره ولا أصاغر أحياءٍ ولا هُلُك/ ان مات جسمٌ فهذي الأرض تخزنه وإن نأت عنه روح فهي بالفلك..)

العلاء مجرد كنية: 
(دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ ولكن الصحيح ابو النزول..)

ابناء الوحيد الواحد، ليسو من لحم ودم، أنجبتهم أنثى لكن ليست امرأة، يعيشون في المعنى، خارج الجسد، فلا يموت العلاءُ كأبيه، لا يسكنُون الدور بل يقطنُون الكتب، في خزائن المحفوظات، في المكتبات الضخمة، من مائة عامٍ لأخرى، عشر مرات مرت مائة عام، وكلما نظر أحد للعلاء رأى الأب، ذلك الذي تزوج المعرفة وأنجبت لهُ ابناءاً من شعرٍ ونثرٍ ورسائل.
(فلا تشغلنّي بالحديثِ وخلّني وأشجانَ قلبي فالحديثُ شجونُ)

ألف وواحد وأربعون عاماً، قنديلاً، في نهر الزمن، نور النهر ينبع من نفس العين، نفسُ البحيرة الصغيرة، التي في بيتٍ ما في معرة النعمان، مرةً مد ساقيته إلى بغداد، ثم سرعان ما قطع الساقية؛ عادت البحيرة للبيت الصغير، ولم تخرج منه، هناك تلك البحيرة، والماء أعمى أيضاً..
ثلاثة وثمانون عاماً، وبيتٌ في معرةِ النعمان ما قبل حشود الزمان، تنظر لآثار أقدام الكتب التي خرجت من تلك البحيرة وجابت العالم، فتحت أبواباً لما فوق ووراء المكان، أوقدت حشوداً من الأفكار، أعطت شباباً حيوياً للشباب الجديد، طاقة ذكية لطاقة الدنيا، هل قلت الدنيا؟ نعم هي الدنيا، هي العشيقة العظيمة التى ملأ وجهها بالهجاء، كتماناً لتطرف العشق الخطير ولوثة الحب الأعمى.

(منكِ الصدودُ ومنّي بالصدودِ رضى من ذا عليّ بهذا في هواكِ قضى/ بي منكِ ما لو بدا للشمسِ ما طلعت من الكآبةِ أو بالبرقِ ما ومضا/ إذا الفتى ذمّ عيشاً في شبيبتهِ فما يقولُ إذا عصرُ الشبابِ مضى/ وقد تعوّضتُ عن كُلٍّ بمشبههِ فما وجدتُ لأيامِ الصبا عوِضا/ وقد غرِضتُ من الدنيا فهل زمني معطٍ حياتي لغرِّ بعدُ ما غرضا)

لمن الكتب، كل تلك الرسائل، كل القصائد، الحكمة المختزنة في الأبيات الشعرية، الحكايات النادرة، والتنقيب، لمن كل تلك الجهود؟ إن لم تكن تقدمة لصداقة زمن الإنسان، صديق الإنسانية الذي أعطى للرجل البصير وللأعمى على السواء عصاً من أفكارٍ وكلمات تدلهما في متاهات الحياة المظلمة..

رأى ما فوق الرؤية، أبصرَ الدهر بعصب بصيرته، وصار خبيراً بالقرون، فتح الصناديق المصمتة، التي عُلقت عليها التعاويذ والتمائم، مدّ يدهُ الحساسة بين أنواع الحراب والسيوف والقنابل والمدافع والديناميت والرصاص، مد فكره الى تلك الصناديق وكشفها بفكره، وضع عليها علامة بكلمة..

(هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهودُ حارت والمجوسُ مضلله/ اثنان أهل الأرض ذو عقلٍ بلا دينٍ وآخر ديّنٌ لا عقل له..)

سحر الفنّ في ذهنه البديع يجعل الكلمة 
تخرجُ قاسية كألماسة..

( تشابهُ أنفسَ الحشرات نفسي يكونُ لهنّ بالصيفِ اغتباطُ..)
منذ اعتزل لم يخرج إلا مرتين مرة خرج من كهف بيته، ليردع الأمير عن خراب البلاد، مرة اخرى خرج الى قبره العظيم..



ذلك الخروج الأخير هو الولادة المخزونة للدهور، ها هو المعري يتجول بورد كلماته الشوكية في الدهر كل طعنة معرفة، كل وسمٍ تعليم..

( نصحتك لا تغترر يا أخيَّ بي فأنا الرجلُ الساقطُ/ ولو كنتُ ملقاً بظهر الطريق لم يلتقط مثلي اللاقطُ..)

الحكمة تُشتَفُّ من الجراح الرطبة والجافة، الأمثولة ترتفع كسحابة بيضاء من كل حياة، محاولةٌ حازمة مصممة للزوم ما لا يلزم، إشعالاً لما فوق النار بسقط الزند، وقصائد في مديح الدروع.. فأي حكمةٍ منقوشة هناك بالفضة والذهب في تلك الدرعيّات.

ديواناه سقط الزند ولزوم ما لا يلزم ورسالتاه الغفران والصاهل والشاحج كتب و
ورسائل حيث كل رسالة أعجوبة فنية، كل كتاب نوعٌ من الجواهر والدرر النفيسة، ينثرها بلا حساب، كمن ينفقُ من انجم..

أما اللزوميات فهي عصارة الحكمة والتأملات العميقة لما لا يلزم

(أما الإلهُ فأمرٌ لستَ مُدركهُ  فاحذر لجيلكَ فوق الأرض اسخاطا..)



أيها الأعمى العظيم، رائد المتاهة، أستاذ العقل العربي في وديان الدهر المجنونة، تشعل شمعة في الغد البعيد، ترفعها وتظل موقدة هناك، حتى بعد ألف سنة، موسيقاك الروحية لا تزال مسموعة، ترتفع لتدعوا إلى الطريق الذاهب نحو غدٍ لم يصل بعد.

أيها الساكن في الغد، ها نقرؤك في  الماضي، نكتب عنك في الأمس، ها أنت تنبعثُ من المستقبل، مشعلاً مصباحك المنذور لتحرير الأذهان، مرسلاً كلماتك سفيرة لفك الرهائن من قبضة سجون الدهر، من الخوف المتوارث، تعالج العيون العمياء كي تحرر نفسها من عماء الماضي وتبصر إرثها الجديد.. لتطمئن للطريق.. لتعرف ما العماء وما البصيرة..

قصيدة الأعمى نفسها عمياء، تتحسس حواف الدروب نحو القلوب، تتجاوز الحرّاس المنصبين على دروب العقول، تقفز الأسيجة الحديدية، والبوابات، نحو المساجين داخل قواعد الزمن العسكرية..
أعمى ولكنه يعرف الطريق.. حطم الأسوار القديمة.. صنع من الكلمات أجنحةً وطار.. فوق الزمن.. لا زال يطير.. انساناً خلق من مهارته حكماً صبها في كلمات شعرية، وأمثال لا في تماثيل.. صار فوق الجمادات.. لا يمكن ان يتحطم بتحطم حجارة تمثاله في عام ألفين وثلاثة عشر.. أي بعد ألف واربعين عاماً من ولادته.. بل يستطيع بذلك ان يكشف الكذبة ويفضحها من جديد:

(المينُ أهلك فوقّ الأرض ساكنها فما تصادقُ في أبنائها الشيّعُ/ لولا ضراوة أصلٍ في طباعهم كانت مساجد مقروناً بها البيَع..) البِيَع: الكنائس



سكب حكمته في اللزوميات، تلك التي لا تلزم وغادر.. تاركاً العالم وراءه، لكن أمامه في نفس الوقت.. كتب فحوى رسالته بألف صيغة..

(مهجتي ضدٌ يحاربني انا مني كيف احترسُ؟!)

 قناطير من الحكمة، أطنانٌ من المعرفة، ورمزٌ في كل بيتٍ شعري، ومشاعرُ نفيسة في أعمدةِ الكتُبِ الفقرية.
الشرايين الدقيقة ملأى بدماء الأزمنة، وعرفانٌ معتصرٌ من بطونِ الكتب، من التأمل الشديدِ الشريد في خطورة الحياة وغفلة الكائن..

منذ وفاتهِ وخروجه الأخير تحول رهين المحبسين إلى حريتين فيزيائيتين، من سجن الجسد صار له جسد من الكلمات وروح من نار الأفكار، ومن حدود الزمن صار لهُ منزلٌ خارج الزمن..

(إقرأ كلامي إذا ضمّ الثرى جسدي فإنها لكَ ممن قالها خلَفُ..)


الخميس، 24 أبريل 2014

بحر أمواج النساء الصوتية

بحر أمواج النساء الصوتية

تفصيل من صورة للمصور العماني عبدالله العبري من حسابه على flicker

أية أمواج صوتية، صيحات عشق، أي غابة أصوات، وصحراء غناء. أي وادٍ أي بحر يركب اللحن يتشابك موجه في بحره، أية لحظة مفارقة يجري فيها الغناء الجارف، فيتركك ذاهلاً عن غرقك فيه. 
غناء الأعماق، تتلاطم الأمواج الصوتية حول القارب الموسيقي يغرق.. غن غن  أغنية وجودك..

لن تشعر إلا والبحر الذي غمرك فجأة، البحر الصوتي، قد اختفى وخلفك غريقاً، لكنك لم تترك مكانك، غرقت وغمرتك المياه وكأنك بلغت القاع في نفس الوقت الذي طرت فيه، لكنك مكانك، البلل داخلك, في خياشيم روحك مياه مالحة، وأنت مكانك في البر فترغب من جديد في غرق السماع.
الانصات لما فوق الكلمات.
الكلمات تتحول لآلات موسيقية، تطلق اللحن الكامن فيها، فتنطلق الموسيقى الحروفية لتقول أن الكلمات أيضاً لحن وموسيقى، تستمع للكلمات فتسمع قبل المعنى اللحن، يصبح اللحن خادماً متواضعاً بين يدي موسيقى الكلمة، ليس المعنى مهماً هنا، بل الأغنية، بل الموسيقى، هكذا ترتفع الموسيقى والأغنية بقدر المعاني البسيطة والعادية لتصنع منها تلك المعاني التي تلبث في الذاكرة وتؤثر في النفس.
ليست المعاني مهمة هنا، بل ما فوق المعاني لحن الكلمة، ليست اللغة مهمة هنا، لأن الغناء يتم بالجذر الموسيقي الأول لكل اللغات، حين كانت نغمة صوتية أولى، تستمع الكلمات فتدرك من أي بحرٍ موسيقي جاءت وانطلقت.
تنصت لما فوق الكلمات، توقف المعجم التفسيري والقاموس عن العمل، وتستمع لمعجم النوتات الموسيقية وهو ينقل لك حقلاً دلالياً آخراً وبحر معانٍ مختلفة.
أصوات روحية كالسفن الهائلة الضخمة تحمل كل الثقافة في اللحن الذي يحتاج تفكيك شفرته النغمية واستقاء معلوماته الروحية لمئات الكتب والبحوث والتنقيب، تختصره ألحان الأغاني..

صورة الغلاف تفصيل من صورة للمصور العماني أحمد الطوقي من حسابه على flicker

لاشيء غير هذا الصوت لكنه يحيي عوالم


صورة الغلاف للمصور الأمريكي ماركو موروني Marco Moroni من صفحته في flicker
لا شيء غير هذا الصوت لكنهُ يُحيي العالم..[i]

أساس المناسبات اللحني، الموجة الصوتية التي فوق الآلات الموسيقية، تنطلق كملكة في مملكة الإصغاء فتستقطب الأذهان..

السماع حاسة من حواسِّ الجسد، والجسد كلهُ حاسة كبيرة للروح، الروح تقف وتنصت لما وراء الكلمات، الروح تقف وتدخل في روح الصوت. الروح تريد من جسدها أن يغني لها نفس الأغنية..
صوت المغني يوقفك وراء الكلمات المغناة، الكلمات والمعاني الشعرية مجرّد أدوات موسيقية هي الأخرى كالأدوات الموسيقية من أجل انطلاقة الصوت، أدراجٌ أو سلالمٌ موسيقية يصعد عليها صوت المغنين حاملاً أرواحهم في غنائهم، عذوبة الصوت مصقولة بقوة الروح، تطلق قواها داخل الأغنية المنطلقة في البرية الصوتية للزمن..
صوت المغنين المتقشف وحده، بلا أنغام إلا ما في صوته من أنغام وألحان، بلا امكانيات الآلات والأدوات، بلا سلالم يطلق صوته العاري كوليمة روحية لحواس الأرواح، ويدعوها كما يدعو الرحيقُ النحل؛ رحيق الأصوات.

ينطلق صوت المغني فيعيد تنظيم الموجات الصوتية وتهدأ النفس، وتعرف العسل. 
الأغاني الكثيرة عن الحب تعبيرٌ عن حالة حب الأغنية، عن حبّ الغناء نفسه، الأغنية نفسها حبيبة، واللحنُ حبيب، نحب الأغنيات كأنهن هنّ الحبيبات. ربما لأن الأغنية كالشعر ابنة الحب..
في التخطيط الأساسي الأول للأغنية يقف الشاعر الرعوي: الشاعر الذي يؤلف أغنياته ويغنيها؛ بلا آلات موسيقية مصاحبة غير صوت مرافق يردد وراءه اللحن، يعطيه فرصة تكرار صعوده الروحي مع كل مقطع، صوت المغني وصوت الكورال الفردي يتناوبان الاستراحة، وتلك الأغنية البسيطة المكونة من صوتين تعيد ترتيب الوجود في الأنفس وتدل الأرواح.
الأغنية جذرٌ إنساني قديم جداً ينبثق من عين الطبيعة الانسانية، عن أغنية الأنفاس الأولى. صياح طفل وهدهدة أم. هدهدة إنسانية للوجود مكونة من خشية وطمأنينة. أغنية الكائنات الحية، ولا هدف آخر سوى بلوغ الأغنية نفسها واطلاق أنغامها في الهواء.. في خلود الهواء.
الصوت الانساني، اللحن الموسيقي الوحيد الذي ينطلق من آلة حية فيسحرُ كل الأرواح، الناطقة والعجماء، يحمل أشجانهُ وشعرهُ وتعابيرهُ وقصص حبهِ وشوقه وحكمته وهمومه، في صرةٍ صوتية، وهو يرحل صعداً ونزلاً في المقامات والأدراج الموسيقية.
الأغنية الشعبية بيت الجذر الصافي، عارياً كما هو منذ قرون طويلة، صوت الأغنية الحي يعيد التأريخ للأغنية، يكرر وجوده ويشعل بشرارة صوته الأولى الصغيرة كامل الحقول الموسيقية، حتى أطراف الجبال النغمية، وحتى دلتا النهر، إلى ملتقى الحدود البحرية بالحدود السماوية.
تراث أهل الطرب الشعبي حين يرحل أهل الطرب أنفسهم سيحفظه الناس وينسونه، لكن هناك من هو اكثر اخلاصاً، سيحتفظ بذلك الصوت في أداة حفظ الصوت، في شريط مسجل بوسائل بسيطة، وسيعيد طرح نسخٍ من تلك الكنوز على امتداد عمره، بامكانياته الصغيرة سيحفظ ما يستطيعه من كنوز المغنين الشعبيين، أهل الطرب كما هو اسمهم في الأدبيات الشعبية، مسجلة في أشرطة سمعية، التسجيل رديء بسبب طبيعة الأشرطة نفسها، وبسبب التسجيل الذي لم يكن في استوديوهات مجهزة، ولا بأجهزة سمعية متخصصة، بمسجلة عادية من تلك التي تباع في الأسواق لا غير، يسجل بها المغني نفسه، في بيته لربما، ويوصلها إلى هذا الرجل، أو تصل إليه من طرق أخرى.


لا زال هذا الرجل، أمد الله في عمره، ناصر بن محمد بن حمود الحجري من سوق أسبوعي لسوق أسبوعي يحمل بعض تلك الأشرطة لأشخاص رحلوا عن الدنيا، أو ما زالوا باقين، يعرضها في الأسواق الشعبية، علها تستثير نحل ذاكرة ما، وتجذب فراشة روح تتذكر، أو تريد أن تنصت للأغنية وهي تصعد من أعماق البحر وتطير في السماء.
أغنية قديمة وصندوق ذكريات يندر من يرغب في فتحه اليوم، ويندر المغني والجمهور معرضٌ للانقراض، وفنون ذهبت أدراج الزمن، لكن هناك قلة مخلصين، يرغبون في الاقتراب من روح ذلك الزمن، أو يحاولون بعثها، يبتاعون صناديق الذكريات تلك كي يعيدوا الاستماع لصوت الذكرى.
 حمود بن هلال الهاشمي ود هلّول
قبل عشرين عاماً، وفي عام 1984 توقفت الأعراس والمناسبات في قرية الظاهر من ولاية بديه لشهرين، لأن حدثاً جليلاً وشخصاً مهماً ومحبوباً جداً توفي من العائلة الكبيرة، لم يكن ذلك الفرد شخصاً آخر سوى ابو خالد الشاعر والمغني حمود بن هلال الهاشمي وكان قد توفي فجأة في حادث سير، خسرت البلدة صوتها المغني، لذلك كان شعور أهل البلاد لفقدهم برحيله، ولمصابهم بفقده يحتاج إيقاف الأفراح وليس مجرد إقامة العزاء، ذلك لأن الرجل الذي كان يحيي الأفراح رحل.. ولأن المزمار سكت، كما يصفه حمد سلطان، فلا بد أن الأفراح نفسها حزينة لفقده. أو أنها توقفت عن الحدوث داخل أنفس الناس من شدة حزنها العميق.
  
الصوت يغني عارياً من ثياب الآلات الصوتية،
اليو دان دان هي النوته هي اللحن الرئيسي يتم ترديده لتضبيط أوتار عود الصدر على لحن الأغينة.
اللازمة التي هي (غنى وناح طير الحمام) و (يا الله من الود وغرامه) و (هيّا يو عيني) كوبليه يتكرر لاستثارة غناء الحمام، وإثارة طاقة الشجن في المغني، لاشعال النار في الروح والجسد المنصت كله..
وكما لو أنهُ كان يتنبأ بالحادث الذي سيأخذ روحه، لكنهُ لن يتهم بروحه أحداً غير الحب
ليس عجيباً أن تنتهي أغنية الأبجدية لحمود هلال الهاشمي بذكر المسجِّل، تمجيداً لآلة التسجيل التي عهد إليها أمانة كنز الصوت.. 

[i] كل الشكر للعزيزين حمد سلطان السليمي وعبدالله بن راشد السليمي اللذين لولاهما لما كان هذا العمل.