الاثنين، 9 سبتمبر 2013

يد تولستوي تعرِّي النظام: ملكوت الله داخلكم (المقال كاملاً)

نشر المقال على أربعة أجزاء في موقع صحيفة البلد


وهنا نص المقال كاملاً

يد تولستوي تعرّي النظام: ملكوت الله داخلكم

1.
“حل التناقض بين الوعي والحياة ممكن بطريقتين إما تغيير الحياة وإما تغيير الوعي”
اشعال النار في الذات
كيف حدث أن إشعال محمد البوعزيزي النار في جسده صار اتهاماً لنظام زين العابدين بن علي وسبباً في اسقاطه؟ كيف استوعب الرأي والوعي العام التونسي الحالة البوعزيزية، ليس بوصفها محاولة انتحار شخصية لشاب سوداوي، بل بوصفها حالة تعبيرية عن انسداد الأفق، ونهاية النظام؟ هل يمكننا أن نضع ذلك في سياقه المنطقي؟ السببي؟
الكتاب
في 14 أيار يونيو 1893 يؤرخ تولستوي انتهائه من تحرير كتابه ملكوت الله في داخلكم والذي صدرت ترجمته للعربية عن دار وموقع معابر www.maaber.orq بترجمة هفال يوسف في 2010، أي بعد ما يزيد عن مائه عام. لكن بالضبط في نفس العام الذي أشعل البوعزيزي النار في جسده، وأشعلها ثورة عارمة على نظام خانق انتقلت من بلد لبلد، كوثيقة اتهام ضد الأنظمة المختلفة جميعها في هذا العالم، أو العوالم إن شئنا.

أخذت حركات كثيرة في العالم تتداول أفكار تولستوي وتتبناها، ولعل أشهرها الحركة الأناركية، لكنها وقعت في دعوات التمذهب والتحزب والتخندق وبذلك سقطت في دوامة العنف الذي كانت دعوة تولستوي للخروج من دائرته القديمة.
أنهى تولستوي كتابه هذا بعد كتابه الآخر المثير للجدل وقتها (فيم تكمن عقيدتي) والذي كان موجها ضد الكذبة الدينية حيث فضح فيه النظام الديني وتعارضه مع تعاليم المسيح، كان تولستوي أيامها في العقد السادس من عمره، ولد 28 آب أغسطس 1828م وتوفي 7 تشرين الأول أكتوبر 1910م، بذلك يكون الكتاب من مؤلفاته الأخيرة، وغني عن الذكر أن الرقابة القيصرية منعت كتب تولستوي.
أسئلة الشر:
“ما السبيل لحل الخلاف بين البشر عندما يعد بعض الناس شراً ما يعده الآخرون خيراً، وبالعكس؟ يمكن أن يكون هناك جوابان فقط: إما العثور على معيار صحيح لا جدال فيه للشر، وإما عدم مقاومة الشر بالعنف، لقد جُرب المخرج الأول منذ بداية العصور التاريخية ولم يؤدّ، كما نعلم جميعاً، إلى نتائج موفقة. والجواب الثاني عدم المقاومة إلى أن نجد معياراً مشتركاً، وهو الجواب الذي اقترحه المسيح، قد نكتشف أن الجواب الذي قدمه المسيح ليس صحيحاً فنقوم باستبداله بجواب آخر أفضل” ص 45.

الدوامة كائنة في استحالة تعريف الشر بشكل مطلق، من هناك يفكك تولستوي الأمر معتمداً على دعوة المسيح، بالتالي يفضح تولستوي أمام القرن التاسع عشر، الذي كان يدعي أنهُ مؤمن تمام الإيمان بتعاليم المسيح، تناقضه، وتعارضه: “كذبة الدين وكذبة العلم بلغتا حدوداً لو لم نكن نعيشها لما صدقنا بإمكان بلوغ الناس هذه الدرجة من خداع الذات، البشر يعيشون حياة مناقضة لوعيهم منذ زمن بعيد” 277.
عقل العالم (الفلاسفة والمفكرون) لم ينتبه لذلك التناقض القائم؟ “كانت العبودية تناقض كل المبادئ الأخلاقية التي دعا إليها أفلاطون وأرسطو غير أن أياً منهما لم ير ذلك لأن إلغاء العبودية كان سيهدم مجمل الحياة التي كانا يعيشانها” وهذا ما حدث أيضاً للأدب “يا لغنى الأفكار والأشكال والألوان، يا لسعة العلم والفصاحة ووفرة الأفكار، لكن يا لانعدام المضمون الجاد، بل ويا للخوف العام أمام أي دقة للأفكار وتعبيراتها، يا للمواربات والاستعارات والنكات والمفاهيم الشاملة العامة، لكن ما من شيء بسيط وواضح يتعلق بالأمر: أي بسؤال الحياة” 114.
ظلت السلطة من جراء نظام العنف تؤول دائماً للأكثر عنفاً، وهكذا قامت الأنطمة على العنف واحتكاره، باستخدام القوة: الجيش، بينما لم يكن الجيش إلا شكلاً جديداً من العبودية: “يتميز العبد بأنه شيء، بأنه أداة بيد سيده وليس إنساناً” 109 والجيش أداة عنف : “جيوشنا حشود عبيد خاضعين لمن يحكم” 109 والجيش هو السلاح الذي يمسك به النظام، فسلاح العنف يصبح هو: زمام السلطة: “السلطة تكمن في أجهزة القوة والعنف وهي الجيش والعسكرية” 240 بالتالي يخضع الناس في الجيش للعنف “جبروت الجيش قائم على الكذبة التي تحلل الناس من طاعة الله والإذعان لضمائرهم وطاعة قائد عرضي ما” 243 وسلاح النظام هو نفسه سلاح الجريمة: “ما من جرائم أشد هولاً مما يستطيع الجيش ارتكابه” 250 وبذلك السلاح تقوم الحكومة وبالتالي النظام باستعباد الرأي العام: “الحكومة ليس من صفاتها الخضوع بل الإخضاع، لا يمكنها التخلي عن سلطتها طوعاً، والجيش هو الذي يمنحها هذه السلطة لذا فهي لن تتخلى أبداً عن الجيش وعن استخدامه” وما نسميه نظاماً وسلطة كامن أساساً هناك في تلك العبودية الأساسية للعنف والتي تسمى عسكرية، العبودية التي تحمي الجريمة.
المرض
يقتبس تولستوي من مونتيسكيو: “البلاد سوف تهلك بسبب المحاربين، لقد انتشر مرض الحرب في أوروبا، ووصل إلى الملوك وهو يحوجهم إلى امتلاك القوات، وما أن تزيد دولة قواتها حتى تفعل الأخرى الشيء ذاته، ولن ينتج عن هذا سوى الهلاك الشامل” حيث الفقر نقيض الملكية: “نحن فقراء رغم امتلاكنا ثروة وتجارة العالم برمته”، حالة توازن القوى تسمى سلاماً: “البشر يسمون حالة توتر الكل ضد الكل سلاماً!”.

يستشهد تولستوي أيضاً بأحد كتابه المفضلين دي غي موباسان: “حين يحدثوننا عن أكلة لحوم البشر نبتسم بتكبر، شاعرين بتفوقنا على المتوحشين، لكن من هم المتوحشون الحقيقيون؟ هل الذين يقتلون كي يأكلوا المغلوبين؟ أم الذين يقتلون كي يقتلوا، فقط لكي يقتلوا؟”126 فالحضارة ليست غلبة العنف: “ما الذي تركته لنا اليونان؟ الكتب وتماثيل الرخام، هل هي عظيمة لأنها انتصرت أم جراء ما أنتجته؟” أما الدولة ونظامها فقد قامت بتحويلنا: “كففنا عن أن نكون بشراً وصرنا أشياء ملكاً لشيء مختلق ندعوه الدولة والتي تستعبد الجميع باسم إرادة الجميع في حين أن كل واحد منا يريد تماماً عكس ما يرغم على القيام به” وكان هناك دوماً من يذكي النار: “الفقراء بالروح المخدوعين برنين الكلمات ألهبوا كراهية الشعب ضد بعضه البعض”.
تلك الاقتباسات أفادت اثبات ظواهر المرض الأوروبية للعنف، وهنا يمد تولستوي يده لتعرية النظام المريض ابتداءاً من رأسه: عقله: “المتسلطون متيقنون من أن العنف هو الذي يحرك البشرية ويقودها، لذا يستخدمونه بجرأة للحفاظ على النظام القائم، في حين أن النظام القائم يظل قائماً ليس بفضل العنف بل بفضل الرأي العام الذي يخل العنف بتأثيره، لذا فإن عمل العنف يضعف ما يريد الابقاء عليه ويخل به” 206 لنلاحظ كيف العنف يعمل ضد نفسه مخلاً بنفس الأسس التي يقوم عليها (الرأي العام) بالتالي الوعي العام.
وبما أن اعمدة النظام مستفيدة منه فهي متورطة حتماً: “ليس بمقدور أي ملك إلا أن يؤمن بثبات وقدسية النظام القائم، فكلما علا منصب الشخص كلما كان أنفع له، والناس يؤمنون برسوخ النظام القائم لأنه بشكل رئيسي مفيد لهم” 237.

2.
أيا كنت يا قارئ هذه السطور، فكر في مكانتك وواجباتك، في موقعك الحقيقي والأبدي ككائن خرج، بمشيئة أحدهم، بعد أبدية كاملة من العدم إلى المجهول، في واجباتك الحقيقية النابعة من مكانتك الحقيقية ككائن استُدعي إلى الحياة ووهب عقلاً وقلباً”
  1. (أيها الجنود، عدوي هو عدوكم)
اجتاحت العالم حركة الخدمة العسكرية الإلزامية انطلاقاً من ألمانيا التي كانت أول من حدس به وطبقه، تلك الفكرة التي كما نعلم أنتجت لألمانيا لاحقاً بعد وفاة تولستوي بعقدين شخصية عسكرية رفعتها عالياً بفعل العنف حتى تكالبت عليها بقية الأنظمة العنيفة لتسقطها من هناك وتفككها وبالتالي دمرتها، تلك هي شخصية الديكتاتور النموذجي (هتلر) الذي أتم تحقيق العنف باسم الحكومة والدولة وبالسلطة العسكرية، فهل كان ذلك هو الهدف ؟ : “كان على الحكومات أن تجنب البشر قسوة صراع الأفراد وتخلق لديهم الثقة في رسوخ نظام الحياة الدولتية، لكنها بدلاً من ذلك تضع على عاتق الأفراد حتمية ذلك الصراع ذاته، ناقلة إياه فحسب من الصراع بين الأفراد الأقربين إلى الصراع مع أفراد الدول الأخرى، وتبقي على ذات خطر هلاك الأفراد والدولة في الآن ذاته” لكن لنرى الختام الألماني بشكل أوضح علينا أن نعود لأسس الخطاب، فلنقرأ الجزء الذي يورده تولستوي من خطاب ويلهلم الامبراطور الألماني لجنوده في 1891م: (أيها الجنود لقد أودعتموني أنفسكم بالروح والجسد، بالنسبة إليكم هناك عدو واحد فقط، وبالتحديد عدوي، في ظل المكائد الاشتراكية الحالية قد يحدث أن آمركم بإطلاق النار على أقاربكم، على إخوانكم، بل حتى على آبائكم –لا سمح الله- وحينئذ يجب عليكم تنفيذ أوامري دونما اعتراض) 170
من هنا يواصل تولستوي تفكيكه لعنف السلطة وأثره في المحكومين (الشعب): “حسابات السلطة تكمن في إيصال الخاضعين للعنف إلى أقصى الضعف لأن المقهور كلما كان أضعف كلما تطلب جهداً أقل لقمعه” الدولة تزعم أن الجيش  لحماية الوطن من الأخطار لكن فعلياً يكمن استخدامه المستمر في: “الحكومات بحاجة إلى الجيوش قبل كل شيء آخر لحماية أنفسها من الذين تقمعهم ومن رعاياها المستعبدين” والعنف وليد الاستبداد: “استبداد الحكومة دائماً يزداد تبعاً لزيادة عدد القوات ونجاحاتها الداخلية، وعدوانية الحكومات تزداد تبعاً لقوة الاستبداد الداخلي”
إذن عبر تخدير الجسد العسكري يتم بالتالي تخدير كامل الجسد، تحت التهديد بنفس السلاح (العسكري) وبالتالي تخدير الجميع بالخوف من العنف، ثم أيضاً، ولم لا، تجربة قوة التخدير: “يضع على جسده حديدة محماة، الجسد ينش ويحترق لكن المنوم لا يستيقظ” هكذا بالتالي تحت تأثير التخدير المركز يحدث التخدير العام ويتحول الشباب إلى أدوات: “شباب أوروبا يخضعون ويكفرون بكل ما يمكنه أن يكون مقدساً لدى الإنسان” يظل شبح المخاطر والحروب التي تستلزم العنف مخيماً على العالم طوال الوقت، حتى تغدو كل تحسينات الحياة الاجتماعية بلا جدوى: “تهديد الحرب الجاهزة للاندلاع في أي لحظة يجعل كل تحسينات الحياة الاجتماعية غير مفيدة ولا جدوى منها”
لقد كان واضحاً بالتالي لتولستوي ما أصبح يعرفه الجميع: “منذ أواخر القرن الماضي لم تشجع الحكومات أياً من خطوات البشرية إلى الأمام بل أعاقتها فحسب، .. سلطة الدولة والحكومات ليست فقط لا تساعد، بل تعيق صراحة، كل الأعمال التي يبتكر البشر عن طريقها لأنفسهم أنماطاً جديدة للحياة، سلطة الدولة ليست فقط لا تحمي من خطر هجوم الجيران، بل على العكس، هي التي تنتج هذا الخطر”
إذن هي ليست أكثر من حلقة عنف متصلة، وبالتالي: “مقاومة ما يعتبره المرء شراً بالعنف جنون” 156، ولهذا السبب يعلن تولستوي: “وسيلة القضاء على الصراع بين البشر جميعاً من خلال عدم استخدام العنف من قبل أي كان، خاصة السلطات” وعلى ذلك يبني تولستوي ما يؤمن به كخلاص، وخروج من حلقة النار، حيث الفرد الواعي والمنتمي الحقيقي هو: اللامنتمي: “أعلم أني لست بحاجة لفصل نفسي عن الشعوب الأخرى لذا لا يمكنني الإقرار بانتمائي المتميز إلى أي شعبٍ أو دولة ولا بولائي لحكومة”
  1. السلطة أبنية وأبناء
“ليست القلاع والمدافع والأسلحة هي التي تطلق النار، ليست السجون هي التي تسجن، ولا المشانق تشنق، ليست الكنائس تكذب، ولا الجمارك تعيق، القصور والمصانع لا تبنى ولا تسند نفسها بنفسها، بل الناس هم الذين يفعلون ذلك كله” 222
الأبنية السلطوية تقوم على الأبناء السلطويين وتتشابه وتمتزج بهم وفيهم، نفس التعابير الشخصية: “من دون تعظيم الذات، والحط من الآخرين، من دون نفاق وكذب، من دون سجون وقلاع وإعدام وقتل، لا يمكن لأي سلطة أن تنشأ وتستمر” والسلطة في الأصل إكراه وشر: “التسلط يعني الإكراه، يعني أن نفعل ما لا نريد أن يُفعل بنا، أي عمل الشر” حتى لو كانت السلطة تتبرأ من الشر وتدعي الخير لكن ذلك لايمكنها لأنه في الواقع: “الأشرار يتسلطون دائماً على الأخيار ويقهرونهم” 196
وللسلطة إغواء القوة ونشوة التحكم بينما من جربها يعرف: “ما إن يبلغها الإنسان حتى تنفضح تفاهتها وتفقد شيئاً فشيئاً جاذبيتها كالسراب الذي له شكل وجمال فقط من بعيد، ما يبلغه المرء حتى تختفي روعته كلها” 201، ومقابل نشوتها هناك (معادل نشوة) هو نشوة الخنوع والخضوع، تلك النشوة التي تجد متعتها في الضعة والسرقة والنهب مع إدمان التمسح بالسلطة ورشوتها بالخنوع والخضوع: “الموظفون المرتشون هؤلاء يذودون بالقول والفعل عن عنف الحكومة الذي تقوم رفاهيتهم عليه” 160
بالتالي في الأسفل، حيث يكمن الخانع والخاضع، تقوم منطقة الفساد، ليس كاستثناء للقاعدة كما يشيع النظام، بل كحالة طبيعية لابد منها: “مهما غيرت الحكومات موظفيها فإن معظمهم جشعون مرتشون ومنحطون أخلاقياً إلى درجة أنهم لا يلبون مطلب النزاهة البسيط الذي تطلبه الحكومات” 215
حتى الناس في الطبقات الحاكمة سيدافعون عن النظام تلقائياً: “”الناس في الطبقات الحاكمة يشعرون غريزياً بما يهدم وما يسند المؤسسة التي يتمتعون بفضلها بالامتيازات” 252، والسلطة كي تكون سلطة تدفع الجميع للتطابق معها: “السلطات الحكومية دائماً تتطلع إلى جر أكبر عدد من المواطنين إلى المزيد من المشاركة في جميع الجرائم التي ترتكبها والضرورية بالنسبة لها” 253 وذلك الجر يحدث عبر التحكم في النبع الحياتي (الشباب): “يوصلون الشباب إلى حالة من التخدير يكفون فيها عن أن يكونوا بشراً ويصبحون آلات سخيفة مذعنة للشخص المخدر” 162،
هكذا توصل العنف المكرس والممارس على مدى أجيال للدخول حتى في أدق مفاصل الحياة حيث سنعثر على تعبيراته المؤكدة في كثير من صور الظواهر الاجتماعية المختلة المختلفة.

3. 
“حرية الإنسان تكمن في اختيار الحقيقة”
سقوط النظام القيصري والثورة العظمى
اشتعلت الثورة ضد النظام القيصري بعد وفاة تولستوي بستة أعوام تقريباً، وحين نشر تولستوي مقالته في نقد العنف وعدم مقاومة الشر بالعنف كان ممن رد عليه مكسيم غوركي (وهو أحد الكتاب الروس الذين قدمتهم الثورة بوصفهم أدبائها) قال غوركي “أنا لا أعرف شعاراً أكثر إهانة للإنسان من الشعار الذي أعلن عن عدم استطاعة مقاومة الشر والحرب من أجل هدفه” كما يذكر ذلك كتاب (صفحات مجهولة من حياة تولستوي ك. لومونوف) علاء الدين للنشر. رغم العلاقة الوثيقة التي جمعت الكاتبين غوركي الشاب وتولستوي.
فيما بعد أخذ النظام الشيوعي يفسر تراث تولستوي وفقاً لوجهة نظر (الثورة الاشتراكية العظمى) تلك العظمة التي سقطت في تسعينيات القرن العشرين قبل أن تكمل شمعة مائة عامها الأولى، وتمزقت. أما تراث تولستوي نفسه فواضح في أنه لم ينخدع بدعاية النظام الحزبية: “السلطة الجديدة لن تكون أبداً أقل قمعاً من السابقة، بل بالعكس، عبر دفاعها عن نفسها من أعدائها الحانقين الذين أسقطتهم، ستكون أشد استبداداً وقسوة، كما يحدث في كل الثورات” 163، كان واضحاً  أن تولستوي ضد أي ثورة تريد أن تقاوم النار بالنار على حساب أجساد الناس: “كل الثورات ومحاولاتها والمؤامرات وتغيير السلطة بالعنف، صراع يقوي وحسب وسائل الاستعباد لدى أولئك الموجودين في السلطة في الوقت الراهن”
كان واضحاً لتولستوي وهو حي أن الثورة والنضال كانا يصبان المكاسب في يد نفس النظام الذي يدعيان أنهما يعاديانه ويقاومانه: “بقي حقل واحد لنشاط البشر لم تهيمن عليه السلطة بعد: الحقل الأسري والاقتصادي، حقل الحياة الخاصة والعمل الخاص. وهذا الحقل بفضل نضال الشيوعيين والرأسمالين تستولي عليه الحكومات شيئاً فشيئاً” ألا يمكننا إذن بالتالي أن نقرأ، انطلاقاً من عمل تولستوي، ان الشيوعية والرأسمالية ليستا أكثر من وليدتين جديدتين لنفس نظام العنف الذي كانا يسعيان لمقاومته بنفس العنف؟
ألم تكن دعوة الاشتراكية إلا تطويراً لنفس النظام: “دعوة العبودية ينشرها ليس الحكومات وحدها بل كذلك الذين يعتبرون أنفسهم أنصار الحرية ممن يبشرون بالاشتراكية” 177، نفس أهداف الاستعباد لكن بصبغات مختلفة، مع الحفاظ على نفس الأسس والجذور العنيفة: “يروج هؤلاء الناس أن تحسين الحياة وتحقيق التوافق بين الواقع والوعي لا يحدث نتيجة جهود فردية بل سيحدث تلقائياً نتيجة إعادة بناء عنيفة معينة للمجتمع من قبل أحدهم” صارت العبودية للعنف مبررة باسم العلم وبالطريقة العلمية وأسلوب النظريات: “من ناحية اقتصادية يروجون لنظرية مفادها أن الأسوأ هو الأفضل: كلما روكم رأس المال أكثر، وبالتالي ازداد اضطهاد العمال، كلما بات التحرر أقرب, وبالتالي كل سعي شخصي من قبل الانسان للتحرر من قبضة رأس المال بلا فائدة؛ كلما أصبحت الدولة أكبر، تهيمن على الحياة فهذا أفضل، يروجون أن زيادة وسائل التدمير سيؤدي إلى نزع السلاح، والمثير للذهول أن البشر من البلادة بحيث يصدقون هذه النظريات رغم أن مسار الحياة كل خطوة إلى الأمام يفضح عدم صحتها” 177، ونحن نعلم اليوم أن الأمر تجاوز تصديقها إلى بذل الدماء في سبلها.
لم تكن كلمات تولستوي الاستشرافية باهتة، بل ذات حضور واضح جلي في ثنايا اللغة الروسية، ولها رنين مميز ينشأ من شهرة تولستوي نفسه وأعماله في نهاية التاسع عشر وبدايات العشرين ليس في روسيا القيصرية وحدها بل في العالم أجمع: “ما من أضلولة تبعد البشر عن الغاية التي يتطلعون إليها كهذه الأضلولة (الاشتراكية) بالذات. يبتكر البشر أشد الطرق مكراً لتغيير الوضع الذي يسحقهم لكنهم لا يفكرون بالوسيلة الأبسط، وهي أن يكف كل منهم عن القيام بما يخلق هذا الوضع” غير أن الواقع في دوامة العنف عاجز عن أن يستمع ويعي، حتى لو كان الكلام لتولستوي: “الحرب القادمة قادرة على ابتلاع ضحايا أكثر من جميع ثورات القرن الحالي في سنة واحدة” 285
قراء اللغة الروسية لم يكن بإمكانهم لحظتها أن يصدقوا تولستوي ولا أن يصغوا لكلماته، كان العنف والكراهية فيهم قد تأججت وبلغت مبلغها من النظام القائم آنذاك وكانت تبحث عن انتقام، عن ردة فعل مضادة عنيفة مكافئة، لذلك شعروا أنهم أقرب إلى لغة الثورة العظمى، ولذلك انتظموا جنوداً وفق أوامر الكلمات التي ينطق بها الرفيق لينين، هكذا بدت كلمات تولستوي لحظتها كلمات ساذجة وزلة شيخ عجوز يبحث عن عزاء مسيحي، كاتباً مصاباً بمسٍّ من حالة دينية مسيحية، يحاول ربما بها أن يصير قديساً؛ وتولستوي فنان طيب حاول أن يكون دائماً قريباً من الشعب، فلم لا يستحق التقديس والتعظيم؟ بلى يستحق، لكنه لا يستحق أن نصغي له في لحظة الثورة، ضد الظلم، وضد الاستبداد، وضد سرقة حقوق الشعب، وحقوق العمال؛ وكان أن الثورة الاشتراكية العظمى أرادت أن تكون وريثة القيصر والنظام وصارت، لكن الإرث تبدد وضاع منها هي الأخرى ولم تستطع أن تمنع سقوط نظامها البديل، وتبين لاحقاً انها تطابقت وتماهت، وفي الحقيقة تجاوزت، عنف النظام الذي ثارت عليه، ذلك النظام الذي تمت تعرية سقوطه بيد تولستوي، ولم يكن بإمكان الثورة إلا أن تؤجله فقط، بالعنف، لسبعة عقود أخرى حتى حدود القرن التالي وإلى عام 1991م:
“الحكومات تعرف أن ساعاتها معدودة، وليس بمقدورها عمل شيء سوى أن تؤخر ساعة هلاكها” 190، كانت الحكومات تؤخر منيتها بيد أبنائها المتكاثرين الذين يمثلون دور المدافعين ودور الأعداء.
هكذا تنبأ تولستوي منذ قرن: “سيأتي وقت، حتماً، تزول فيه كل مؤسسات القهر في زماننا نتيجة عدم الحاجة إليها، وسخفها، وعدم لياقتها، الأمر الذي يتجلى بوضوح للجميع” 221

لقد تمكن تولستوي عبر استعراض مفصل لحظة التناقض العسكرية من أن يصل لنزع الثياب عن النظام (كل وأي نظام قائم باسم الدولة) أمام الوعي، يفضح تولستوي التناقض عبر تلك التعرية (ستربتيز النظام) في العسكرة: “بلغت تناقضات الوعي، وبالتالي بؤس الحياة، حدها الأخير الذي ليس بالإمكان الذهاب أبعد منه، الحياة المبنية على مبادئ العنف بلغت حد الغاء الأسس ذاتها التي تأسست باسمها. نظام المجتمع القائم على مبادئ العنف أوصل الناس إلى إلغاء المصالح الشخصية والأسرية والاجتماعية والقضاء عليها” 172 .

4.
“حياة الإنسان، الإنسانية، ليست سوى حركة دائمة من الظلام إلى النور”
  1. العنف والتخدير والتمثيل
“النفاق العام الداخل في أجساد ودماء كل شرائح عصرنا بلغ حدوداً بحيث أنه لم يعد يثير استياء أحد، ليس عبثاً أن الهيبوقراطية تعني التمثيل، التصنع، القدرة على لعب أي دور” 270
النظام يربي ويرعى قيام الناس بتمثيل دور الشخصيات، لعب الأدوار المختلفة التي تسمى وظائف في مسرحية وفيلم النظام: “النظام يخدر الناس ويجعلهم يتصرفون وفقاً للشخصيات التي يمثلونها” 258 يتم تلقين الناس منذ نعومة أظافرهم وتأهيلهم ليلعبوا أدوارهم/ وظائفهم المتاحة في النظام: “الضمير منوّم لدى هؤلاء الناس لكنه موجود وهو يتكلم فيهم .. وسرعان ما سيوقظهم” 261
التمثيل إذن؟ ألم يكن أحدٌ يسأل في وقت ما، هل ما نعيشه حقيقة أم تمثيل؟ أليس النظام الذي جعل منا رعاياه يخدعنا ويجعلنا نمتثل لأدوارنا المرسومة، في السيناريو الافتراضي، وبالتالي يسرق حياتنا الحقيقية؟ ألن نرى هنا ونقرأ أن اعتبار الممثلين نجوماً والتركيز في براعتهم التمثيلية هو محاولة غريزية لاستلهام المواهب التمثيلية التي نؤديها في أدوارنا المختلفة، وما أن ننخرط في النظام حتى ننسلخ من كينونتنا الإنسانية، متحولين إلى أداة تمثيلة لخدمة مسرحية النظام، الذي اقنعنا منذ الطفولة ولقننا أهميته، وأنه مسرحيته هي الشكل الوحيد للحياة. حتى لو كان داخلنا يحدس بالعكس.
يشرح تولستوي انطلاقاً من: “لدى أي إنسان همجي هناك شيء ما مقدس هو مستعد للمعاناة في سبيله على أن يتخلى عنه، فأين هذا المقدس لدى انسان زماننا” كيف أن النظام العنيف جعل أهداف الإنسان محدودة الأفق، قصيرة، وذاتية، عبر تحديد خيره الشخصي كمغزى لحياته: “خيره الشخصي هو مغزى حياته، لذا من الأفضل له أن يخضع وهو يخضع” بالتالي تسقط المبادئ العليا لدى إنسان زمان النظام/ الممثل: “ليست لديه مبادئ يمكنه من أجلها مواجهة العنف بمفرده، والذين يحكمون الناس لن يسمحوا لهم أبداً بأن يتحدوا”
بالتالي ،تحت هيمنة القهر العنيف، تصبح الدعوات لترقية وتحضير المجتمع عبر الأنشطة الاجتماعية والناشطين مجرد عبثية: “يتحدث الناشطون الاجتماعيون عن بناء مجتمع رشيد وأخلاقي، أي مجتمع رشيد وأخلاقي يمكن بناؤه من أناس كهؤلاء؟ جذوع الأشجار العفنة والمعوجة لا تصلح لبناء بيت، كذلك ليس بالإمكان بناء مجتمع رشيد وأخلاقي من هؤلاء الناس، يمكن فقط تشكيل قطيع من الأغنام يقاد بصيحات الرعاة، وهكذا الحال” وهكذا لا زال الحال، الإنسانية تتحول لمجرد قطعان بشرية للأنظمة المختلفة أو المتشابهة، للرعاة، ويتحول المجتمع الإنساني الطبيعي إلى مجتمع رعوي وقطعان بشرية. تأتمر بصيحة الراعي. وتغدو الجهود الحضارية مجرد واجهة تزيين. أو حركات عنيفة جديدة.
كان الملك: النظام عارياً طوال الوقت كما في قصة غرتسن التي يستشهد بها تولستوي عن الملك الذي أقنعه خياطان محتالان بأنهما سيخيطان له رداءاً سحرياً لا يستطيع أن يراه الأشخاص الذي لا حاجة لوظائفهم، ولأن الملك يخاف من أن يقال أن لا حاجة لوظيفة الملك يتظاهر أنهُ يرى الرداء، وكذلك يفعل كل الحاشية والبلاط والناس، لكن وحده الصبي يصرخ: الملك عاري، وها هنا الشيخ تولستوي يقول لنا كيف أن النظام: الملك عاري.
  1. تحرير الوعي
تولستوي يبذل كل جهده لتحرير الوعي من مأزقه، “الإقرار بقدسية حياة الناس جميعاً هو الأساس لأي عقيدة أخلاقية” 250؛ إن الوعي الأخلاقي الذاتي في الداخل يعمل، حتى حين يكون المظهر الخارجي مناقضاً: “وضع عالمنا المسيحي إذا نظرنا إليه من خارجه بقسوته وعبوديته للبشر، مرعب بالفعل، أما إذا نظرنا إليه من ناحية تطور وعيه فالمشهد مختلف كلية” 166
تحرير الفهم الاجتماعي، عبر إيقاظ الوعي لتناقض نظامه، والعودة للينابيع التي ظلت الأرواح البشرية متعلقة بها كأمل، مع تخليص تلك الينابيع من الطحالب المتجمعة “على المرء أن يفهم حياته كما علمه المسيح أن حياته ملكه، هدف حياته تطبيق قانون الله” ،174 والتحرر من السلطة البشرية لن يتم في نظر تولستوي إلا بالخضوع للسلطة الأصلية: “المسيحي يتحرر من سلطة البشر عبر إقراره بخضوعه فقط لسلطة الله الذي يعي قانونه، هذا التحرر لا يتم الا عن طريق الصراع، ليس من خلال هدم الأشكال القائمة، بل عبر تغيير فهم الحياة” 175
ثورة الوعي هي الثورة الحقيقية التي ستحرر الانسان من دوامة العنف وحلقته المغلقة، ذلك العنف الذي استطاع خديعة الوعي وتخديره، بالخداع صار يتحكم في المفاصل الدقيقة لحياة الناس، وبالتالي جعلهم عنيفين مثله، لقد أنتجت عملية العنف النظامية بشراً عنيفين بالقانون الذي يجيز مناطق من العنف مشتركة، ليسوغ وينفرد هو بمناطق العنف الكبرى.
يغدو جلياً بعد قراءة تولستوي كيف أن العنف تغلغل حتى في التفاصيل الدقيقة لحياة الأفراد، في تعاملاتهم البينية، في التنافس والصراع من أجل العيش، في تذكية الصراع من أجل النجاح والتفوق على الآخرين، وهزيمتهم وسحقهم والذي يتم تصويره كفوز ونجاح؛ تتحول الحياة بأكملها إلى رغبة في هزيمة الآخرين، والتفوق عليهم، والتملك أكثر منهم، بل واستعبادهم، من الطفل الذي يعلمه النظام التعليمي أن عليه التفوق على زملائه، حتى الموظف الذي يشجعه النظام الوظيفي ليسحق زملائه، إلى المذاهب الدينية والفكرية المتنازعة، وليس انتهاءاً بالأب الذي يمارس العنف على زوجته والزوجة التي تمارس العنف على أبنائها، إلى الشارع الذي يقود فيه الناس سياراتهم بنفس العنف، إلى مراكز التسوق التي يتهافت فيها الناس على البضائع ليفوزوا بها قبل الآخرين. في صور متكاثرة لنفس المنطق الأساسي العنيف.
يغرق المجتمع والشعب بأكمله في الدوامة العنيفة وينفصل أكثر ويتفكك، وبانفصاله يجعل الغلبة للأكثر عنفاً. تغدو الحياة بأكملها مجرد ساحة عنف، كما تغدو التاريخ والغابة في تصور النظام وتصويراته ليسا أكثر من ساحة صراع، ويبلغ ذلك مبلغاً ليكون بموجبه منطق الحياة بأكملها: “فضلاً عن أن العنف يفسد الرأي العام فإنه يخلق لدى الناس القناعة السيئة القائلة أن البشر لا يتطورون بفضل القوة الروحية التي تدفعهم إلى ادراك الحق وتحقيقه، بل بفضل العنف” 207 وذلك هو مأزق الوعي.
لكن الإيمان بالعكس، بالدوافع الروحية العميقة، هو الذي يحرر وعي الإنسان: “يستحيل وضع انسان رغماً عنه في موقع يتعارض مع وعيه” 289 والوعي يتحرر ذاتياً في تماسه وتفاعله مع الطبيعة من حوله:”الإنسان ليس جامداً في علاقته بالطبيعة بل يدركها باستمرار تبعاً لتطوره” 272
  1. الربيع التولستي:
حين يدرك الوعي مأزقه العقلي يتحرر، وهذا ما كان تولستوي يجاهده محاولاً أن يوقظ الوعي لتناقض نظامه، وحين يتحرر الوعي الفردي سيتحرر الوعي/ الرأي العام: “الرأي العام لا يحتاج كي ينشأ وينتشر إلى مئات وآلاف السنين وله صفة معدية للتأثير في الناس، وبسرعة كبيرة يشمل عدداً كبيراً من الناس” 205 هكذا بدا لتولستوي منذ أكثر من قرن أن فرص الحياة الجديدة وابتكارها قائمة: “لم يعد حلماً بل شكلاً جديداً ومحدداً للحياة تقترب إليه البشرية بسرعة مطردة” وهناك منذ وقت طويل كان تولستوي يحلم بالربيع :
“قد يبدو تفتح البراعم على بعض الأشجار في الربيع عرضياً لو لم نعلم أن سبب ذلك هو الربيع الشامل” 217
“هناك أوقات كالربيع لم ينهر فيها بعد الرأي العام القديم ولم يتشكل الجديد بعد، وذلك حين يبدأ الناس بمحاكمة أفعالهم وأفعال الآخرين بناء على ادراك جديد، في حين أن الحياة تستمر بقوة العطالة وبسبب التقاليد” 260 أما كيف سيبدو شكل هذه الحياة الجديدة ف: “لا يمكننا أن نعلم ظروف الحياة الجديدة لأن علينا إبداعها” 212، والطريق واضحة وحق: “الوسيلة الوحيدة لتوحيد البشر هي الحق، كلما تطلع البشر بعزم أكبر إلى الحق كلما اقتربوا أكثر من هذه الوحدة” 271 أما الغاية والمبدأ العلوي ف: “حياتنا لا يمكن أن يكون لها معنى آخر سوى القيام، في كل لحظة، بما تريده منا القوة التي أرسلتنا إلى الحياة، ومنحتنا في هذه الحياة قائداً لا شك فيه: وعينا الرشيد”.
هكذا سيعيد تولستوي تعريف الحرية الحقيقية بوصفها الاتحاد مع القوة العليا: الحرية، الانتماء إلى حياة العالم اللامتناهية، أو إلى الله.290
“لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هو ذا ههنا، أو هو ذا هناك، لأن ها (ملكوت الله داخلكم)” انجيل لوقا 17: 21