السبت، 28 مارس 2015

سجن الكتابة قراءة في كتاب ميثاق الخلاص لمعاوية الرواحي


سجن الكتابة*
قراءة في كتاب ميثاق الخلاص
شجارٌ مع بؤبؤ واسع
ط1 2015 الانتشار العربي



تعددت الكتابة عن تجربة السجن، أو أدب السجن في أدبنا العماني المعاصر، مع أن تجارب السجن في حد ذاتها صغيرة زمنياً وضيقة مقارنة بتجارب أدب السجون الطويلة للكتاب عالمياً، لكنها شديدة التكثيف وإن كانت لا تتجاوز مثلاً نصف سنة كالتجربة التي وثقها سعيد الهاشمي في كتابه (ياسمين على الغياب رسائل من زنزانة انفرادية) المنشور في 2013، أو هنا مع اختلاف التجربة والتقنية والناتج في تجربة السجن والحجز لعشرة أيام التي وثقها معاوية الرواحي في كتابه هذا ميثاق الخلاص شجار مع بؤبؤ واسع. المنشور هذا العام والذي توافق صدوره مع تغييب الكاتب في سجون السلطات الإماراتية هذه المرة، لذلك فهو كتاب مناسب للاستعادة، بل ان صدوره في هذه اللحظة يقدم نفسه بهذه الصورة لا غيرها..
أولاً يسجن الكاتب بسبب مقاله الشهير ميثاق الخلاص الذي كان أشبه باعتراف بكل ما ظنه الكاتب أسرار اجتماعية ودينية وسياسية، لكن بسبب حاجته للعناية الطبية والنفسية يتحول الى الحجز في مستشفى ابن سينا للطب النفسي وهناك تمده ممرضة طيبة بالأقلام والأوراق ليكتب، وهو الفعل الذي ينتج لنا هذا الكتاب بهذا العنوان: ميثاق الخلاص.
نجد منذ البداية تعبيراً واضحاً عن تلك الرمزية الوثيقة بين الكتابة والسجن، حتى عما هو خفيّ في تلك العلاقة وغير مفتضح منها مثلما يشير لنا معاوية هنا في كتابه عن كون الكتابة نفسها نوعاً من السجن: يا إلهي لماذا أكتب؟ كنت احسب أنني أكتب لأكون حراً. الكتابة سجني!! ص18.

أداة الكتابة
في كتاب ميثاق الخلاص هنا تجربة من نوع آخر جديدة على الكاتب نفسه، هي أن الكاتب كان قد اعتاد الكتابة على لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر، على الشاشة المقابلة، والإشعاع الكهربائي للضوء، وربما حرارة سطح لوحة المفاتيح نفسها، لكنه يضطر مرغماً للتخلي عن ذلك كله إلى القلم والورقة، وما تنتجه التجربة ليس سيئاً على الإطلاق بل لربما هو أجود.
الكتابة بالجهاز مختلفة الإيقاع عن القلم، على الورقة، ليس فقط في مشكلة عدم قدرة الكاتب نفسه على فك رموز وشفرة بعض الكلمات لاحقاً مثلما يوضح كتاب ميثاق الخلاص حيث تتكرر بين قوسين عبارة (لم أفهم خطي) أو (الخط غير واضح) وهي تقنية وسع من استخداماتها الكاتب أحياناً كثيرة كورقة التين لتغطية سوءة عبارة أو كلمة لا يريد ذكرها، كما يتضح ذلك من خلال السياق للقارئ، وأحياناً أخرى كانت تأتي بالفعل في موقع منطمس المعنى أو فارغ..
إذن ليست مشكلة إعادة فك الخط هي وحدها الاختلاف بين الجهاز كأداة كتابة، والقلم، بل أيضاً السرعة وهو ما يشير إليه الكاتب في أكثر من موضع، سواءً بالشكوى من بطء القلم: القلم بطيء وممل وقد اعتدت الكتابة بتسع أصابع/ أقلام. ص12، وما يشير إليه في موضع آخر: على غير العادة أكتب ببطء شديد، على غير العادة أكتب لقتل الوقت لا لقتل النفس هذه المرة. ص38 أو بالشوق للوحة المفاتيح: أشتاق كثيراً للوحة المفاتيح. لم أعتد الكتابة بهذا البطء. القلم بطيء للغاية ولا يكفي. أحتاج إلى عشرة أقلام لأطارد تسارع الأفكار في رأسي لأكتب لك. ماذا لو لم أستطع التوقف؟ ماذا لو استمر الأمر إلى الأبد؟ ص53 إيقاع الكتابة الزمني مسألة أخرى مهمة، يمكن أن نضيف إليها أن الحروف كلها تتشابه على الأصابع في لوحة المفاتيح اذ كلها مجرد ضغطات، بعكس القلم الذي يرقص رقصة مختلفة مع كل حرف.
لكن البطء القلميّ ينضج الكتابة وهكذا سنرى القلم نفسه مع تقدم الكتابة يتحول إلى أداة خلاص، ومن كونه أداة كتابة يتحول إلى أداة فهم: كنت بحاجة إلى هذا القلم كي أفهم، والآن قد فهمت, الآن فهمت، كلنا ضعفاء، واللعبة تنتصر. ص20  هكذا تتكاثر مهام القلم من أداة كتابة لأداة ذكرى: أتذكر وأنا أمسك هذا القلم الأزرق كل الأقلام الحمراء التي صنعت مصيري ص38 وفي فضاء الحجز الخالي من أي أشياء أخرى، في غرفة الحجز الخاوية من الحياة، غرفة السجن والتجميد، يتحول القلم والورقة إلى تعزية وتسلية وأدوات تغيير: وجود ورقة وقلم غير كل شيء دفعة واحدة، إضافة مادية صغيرة جعلتني أكثر تقبلاً لما حولي. ص39 هكذا أصبح البطيء الممل مفيداً أكثر، وواضحاً ومفهوماً، وذلك البطء أعطى معنىً أعمق لفعل الكتابة نفسه.

متاهة الكتابة:
يستعيد الكاتب بداية تجربته الكتابية، ليست تلك الطفولية البسيطة، بل المصممة: أتذكر وأقارن الآن أيام الكتابة الأولى، كنت في مصر عندما أصبح الأمر هواية ثم هوساً ثم لعنة. ص43 تحولت الكتابة إلى لعنة نتج عن آثارها وجود الكاتب في السجن وحجز المستشفى بسبب كتابته..
لكن السبب في السَّجن وهو الكتابة تتحول في السِّجن إلى طريقة تفكير، ومن سجن إلى أجنحة أو نهر يقود الكاتب إلى الذوبان فيه، يحتوي كامل الجسد الشائك حتى النهاية، ويشبع فكرة الجنة نفسها: هل من الممكن أن أجد طريقة أخرى أفكر بها هنا؟ لا شيء إلا الكتابة، هذا السفر العشوائي مع الكلمات والحروف, السفر القديم واللذيذ والأهم، هذا التوتر اللغوي الأزلي, التوتر البدائي الذي يجعل هذه الجدران أقل حلكة وشحوباً.. لماذا أشعر أني في الجنة؟ وأنني فوق استطاعتي (لم أفهم هذه الجملة، لكنني وجدتها مكتوبة هكذا) فوق ذلك أريد البقاء هنا إلى لحظة الموت، هنا إلى الأبد. يبدو الخبر مفزعاً. ص42
في التجربة يستكشف الكاتب نفسه وينكشف لنفسه: لقد انكسر الكاتب بداخلي إلى الأبد. ص14 وهذا ما يجعل الكاتب يطلق وعوداً بعينها، من أخطرها التوقف عن الكتابة: أريد أن أقول كل شيء ولا أريد أن أقول شيئاً. أريد أن أحب مرة أخرى, عندما أخرج سأتفرغ للحب. سأترك الكتابة نهائياً ص20
مع ذلك يتكرر الوعد، أو تبكيت الضمير، بشأن الكتابة: أشعر أنني مخطئ في فكرتي الرئيسية عن الكتابة. أنا مخطئ نعم أنا مخطئ يجب ألا أكتب أبداً, يجب أن أعيش. ص21 أو ص59: لا أريد أن أكتب أريد أن أفرح وأعيش.
هناك في اللحظة نفسها، في الحجز والسجن، والتي هي لحظة كشف ذاتية صافية، يتم استعادة الماضي والحاضر كفيلم أمام ناقد فذ: لم أعد أنا، كان هذا آخر عهدي بي, من أنا؟ لست أكثر من سجين داخل سجين وأريد أن أهرب بأسرع وقت ممكن. ص16، هنا تتضاءل صورة حياة الكاتب كلها إلى مجرد ثرثرة مع الورق: لم أفعل شيئاً طوال هذه السنين. إلا هذا. ما أفعله الآن. أجلس مع ورقة وأثرثر. ص21
تكبر فكرة التوقف عن الكتابة بالتدريج، مع مرور الأوراق التي هي ساعة الكتابة، وبعد شوط الكتابة المقطوع بركضة القلم: هل أكتب وصيتي الآن؟ لا أعرف ولكنني أشعر أنني أكتب للمرة الأخيرة، ولماذا أشعر بذلك لا أعرف. ص31
في السجن والحجز يغدو جلياً غرض المرء من الكتابة في حياته: كنت بحاجة إلى الكتابة لأفهم الذي أنا فيه. ما زلت غير قادر على الفهم. ص31. ويسيطر الخوف أكثر ويتحول المرء أكثر إلى منطقة الشك، حيث كل شيء قابل للشك، وللتردد: أخاف أن تنتهي الأوراق وأخاف أن تمتلئ ص31 وحيث الخوف ووضوح الحاجة جلي بشكل بسيط، حيث يوثق الكاتب حاجته: بحاجة إلى إنسان أكتب له ص37
ويتعرف المرء بعيش تجربة السجن إلى السجون الأخرى الشبيهة التي كان فيها، بالسجن الواقعي يتعرف على السجون الرمزية ويغدو واضحاً سجن اللغة مثلاً: أقول في نفسي لماذا؟ لا أستطيع أن أحب بلغتي؟ أنا سجين لغتي وأريد أن أكون حراً. ص52 يغدو أيضاً جلياً ما يسميه الكاتب معسكر الكتابة حيث حبس نفسه لعشرين عاماً: الحياة التي احبس نفسي فيها في معسكري الكتابي يجب أن تعاش وتمارس. ص62.  ثم تعود الكتابة لتصبح المأثرة الوحيدة فيعود بالعكس لحب لغته: ليس لدي شيء في هذا العالم سوى اللغة وهذه لغتي التي أعشقها اعشق لغتي بشدة. 53
كانت الكتابة فعل مجازفة: أكتب وأغامر ص51 لكنها تحولت لسجن رمزي امتنع الكاتب بالمكوث فيه من الحياة نفسها، وهي هنا سبب سجن، وما كان رغبة في التحرر انقلب لسجن، وحادثة كتابة مقالة ميثاق الخلاص تحولت لكتابة لميثاق السجن: كنت بعد كتابتي للمقال قد شعرت بالخلاص النهائي. الخلاص من الذاكرة والماضي ومن كل الأسرار. كم هو مضحكٌ أن تكتب ميثاق الخلاص لتكون حراً وينتهي بك المطاف لتعيش أيام حريتك الأولى في الحبس!! ص64
مع الوقت يقع الكاتب في الحب، فيوجه رسائل غرامية، ويلح في رسالة طلب موعد من الحبيبة الافتراضية التي يلوح من سياق القراءة أنها نفس الممرضة التي جلبت الأوراق والأقلام ومكنته من الكتابة: لا أريد أقلاماً وأوراقاً، أريد وجهك السماوي ص68 وللحبيبة فقط يعترف لها بسبب الكتابة: هل أعترف لك لماذا كتبت ذلك المقال؟ كلهم يبحثون عن السبب وقد عرفته قبل ساعة واحدة فقط، كتبته كي لا أكون شبحاً بعد اليوم. ص74 إذن هل التحول من الحالة الشبحية، الافتراضية إلى جسد فيزيائي ملموس ومؤثر ومتأثر هو الدافع الكتابي؟!
في ميثاق الخلاص تشارك كل الذوات الفاعلة والحقيقية والمذكورة بالإسم أو الرمز في نفس الفعل الأساسي: الذي هو الكتابة، وتتفاعل معه، مثلما أن الكتابة هي المطلوب الوحيد في كل الرسائل الموجهة إلى الأصدقاء هو الفعل نفسه: اكتبوا اكتبوا، العالم يستحق الكتابة والفرح، هذا ما تعلمته، الفرح ونشره، الحب والكلمات. ص67 وهي الوصية: الكلمات هي التي تبقى لنا. ص67
تتحول تجربة السجن إلى تجربة كتابية موثقة في ميثاق الخلاص، تلك التجربة التي يوثق الكاتب منذ المقدمة تمجيدها بقوله المجد الكتابة، تصبح هي السبب في تحولات الكاتب، في معاناته، وفي رفضه، وفي قدره، وفي موقعه، هي نفسها سجن، وفي نفس الوقت سبيل تحرر، وخلاص وفهم واستيعاب ورفيقة قدر، وهنا تعود الكتابة لتحرر نفسها من الأداتية، من القلم واللوحة نحو كينونتها هي، السابقة على الأداة، كحالة داخلية، تسعى لتوجد من خلال الكلمات، وتولد وتبقى كأثر، والتي يتضح إلى أي درجة بإمكانها أن تحول الكاتب نفسه، إلى أداة أخرى، إلى قلم وإلى لوحة مفاتيح، إلى سجينها اللغوي، أو إلى بطلها المحرر. تلوح خلف كل العمل الذي أنتجته، وسخرت له كل شيء، كما لو أنها وحش خفيّ متنكر، أو طاقة تحرر، تؤجج حرارتها بكل شيء لتعاود الانطلاق. تسجن الكاتب رمزياً وفعلياً، ثم تحرره، كأنها نوع من المطهر أو جسر الصراط المؤدي للجنة والمار فوق نار جهنم.



*كتبت هذه المادة لبرنامج هواء الكتابة الذي يعده الشاعر صالح العامري.. لكن الحلقة لم تبث.. لذا لزم التنويه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق