الاثنين، 16 مارس 2015

لماذا تكتب؟*

لماذا تكتب؟

اللوحة للفنان محمد نظام


سؤال خطر، متفجر، سمعتُ وقرأتُ عن شعراء وكتاب توقفوا عن الكتابة، ربما بسبب هذا السؤال، ليس لأنه فقط من وزن لماذا تصنع الفن؟ بل أيضاً لأنه على نفس مستوى أسئلة لماذا نحيا؟ لماذا نعيش؟ لماذا نحب؟
قبضة هذا السؤال، إذا نظرنا إليه على أنه سؤال نفعي، تحاول أن تطبق على رقبة القلم، تريد أن تكسِر الأصابع.
الكتابة مزيج من الحتمية القدرية والاختيار الثابت للإرادة، ذلك الاختيار الذي يبدو كأنه نوع من التفاهم النفسي مع السكن الضروري الجبري في وادي الكتابة.
أكتب لأن الكتابة بدت لي دوماً ومنذ الصغر طريقة سحرية، نوعاً من خاتم سليمان، حيث يستطيع المرء أن ينفذ كل أمنياته.
فكي تكتب فعلاً يجب عليك أن تنضبط انضباطاً فوق الانضباط العاديّ المقاس، عليك أن ترتقي لتبلغ درجة الانضباط والالتزام المناسب لتلقي الإلهام وتلقف الوحي.
هناك ألف إجابة ربما على السؤال، ولا واحدة منها هي الإجابة النهائية الحتمية واليقينية.
ربما أكتب لأن في وعيي أن هذه الحياة مشاركة، أن بإمكان الكتابة أن تحدث تغييراً في العالم، بالضبط كالسحر، تكتب فيتغير اتجاه موجة صغيرة في مكان ما مجهول، فيحدث ما تريده من الكتابة، ولو بعد حين، تكتب رقية وحرزاً، ظاهرياً هي كلام غير مفهوم الهدف تماماً، لا تفصح الكتابة عن هدفها المباشر، لكن باطنياً تذهب إلى بغيتها الحقيقية.
أكتب كحاجة ملحة، كاضطرار، ربما لو لم أكتب لجننت، أو لاستسلمت لحوادث الموت التي صادفتني ومت.
لماذا أكتب؟
أكتب لأنني أحب الفن، أحب هذا النوع من الأعمال الذي يبث روحاً ويعرضها، يوقد بها ويشعل الأنفس، أحب العمل الخلاق، تتولد منه الحياة، هنا فسحة لصنع حياة بالكلمات، يمكنها أن تثبت روحاً حية في الكلام، وتلك الروح تؤثر في الأرواح الحية فتجعلها تستشعر خطورة الوجود وأمن الوجود وحافة الوجود ومنزلقه ومنفسحه.
بدت الكتابة كما لو أنها الطريقة والوسيلة الأسهل والأبسط، والتي كانت في متناول قلبي ويدي، يدي والأداة، الورقة، القلم، لوحة المفاتيح، الآلة الطابعة، الإزميل والحجر الطيني، والريشة.. كان يمكن دوماً أن أصنع كلمة، وتلك الكلمة، ترجمة لسان جمعيّ أو فردي أو ذهني أو خيالي.
الكتابة قربتني ووضعتني في عالم الأشياء التي احترمتها وأحببتها، أكتب لأن هذه طريقي التي عثرت فيها على روحي وذاتي.
ليس فقط لأنني لا أستطيع وفشلت في السير في الطرق الأخرى البديلة الاعتيادية، ليس ذلك فقط. بل لأنني أحب. أحب هذا الذوق والطعم الكتابي، طعم الحبر أراه نبيلاً وجميلاً ويستحق أن تحيا لأجله، وأن تحب، وأن تعيش، وأن تكتب.
بسبب الحب كتبت أول مرة، حب فتاة، وأنا كنت الصيّاد فصرت الصيدَ ، وابتلعت الطعم، كتبت ليس للفتاة نفسها، بل للقمر، كي يكون رسول حبي، وتلك كانت حركة التفافية بدائرة واسعة جداً ط عن الغرض الرئيسي نفسه، كي أجد نفسي أكتب.
كتبت بحمى، كي أكتشف في حمى الحب وحمى الكتابة من أنا وما الوجود، والآن وانا أنظر إلى مراهق الإعدادية يبدو لي الأمر واضحاً، لم تكن الفتاة حبي، كان وجهها الذي أشرق عليّ في صدفة صباحية بذلك القرب تجلياً وتجسيداً لحبي للجمال، درباً يقودني لإشراقات الكتابة والفن.. احببت فكتبت فأحببت ما كتبته وطفقت هكذا أكتب عن الحب.
أكتب بسبب الجمال، لأنني مغرم، بالجمال الفنيّ وسحره، مسحور أنا ومغيب بين حشود المغايبة المسحورين بجمال الساحر، والساحرة، الجمال سحرنا ونسينا كل شيء آخر، وكان ذلك النسيان أجمل ما فعلناه. رأينا مشهداً وذبنا فيه، ونسينا أنفسنا، توحدنا بما رأيناه، ونسينا الرائي، نتذكرنا أحياناً من بعيد، لكننا منذ تلك المرة الأولى غرقى هناك. في فن الجمال.
نفتش عن الفن ونتبعه ونتقصى آثاره كعلماء الآثار المنغمسين في موقع أثري، لكن الموقع الأثري الذي ننقب فيه ممتد على امتداد الزمن، منذ أول الزمن الذي في الانفجار العظيم حتى آخره، عند النقطة التي يتمدد وينكمش فيها الكون، ولسنا ننقب عن الآثار فقط ونصنفها ونعرِضها، بل نصنع الآثار، نكتبها، نخلقها، نبنيها ونشكلها.
بالكتابة أمكنني الوجود المتعدد
ربما نحن مرضى جداً والكتابة علاجنا الوحيد..
ربما نحن أصحاء جداً والكتابة هي سلمنا للجحيم لنغدو شياطين، أو مرتقانا للسماء لنغدو ملائكة.
لماذا أكتب؟
كل إجابة ستبتدئ بربما، وأظن، وأعتقد، ويمكن.
ستبدئ الإجابات بالاحتمالية، لأن الكتابة من نوع الأفعال المفارقة للواقع، والمتجاوزة للغائية القصدية، فلا غاية واضحة، هذا السؤال على مستوى الأسئلة الكبرى، كالغاية من الحياة والوجود. واجابته فوق الأسباب والغايات الواضحة. وما فوق العقل والنفعية والمصلحة، وهنا يتجلى وجه الفن.
الكتابة أعطت لوجودي معنى يليق بمرور العمر، وبفرصة الحياة الثمينة.
أكتب لأني بالكتابة فقط أقتنع أنني أفعل بحياتي شيئاً بمستواها، وبمستوى حبي، حبي الذي يترجمه كل حب.
أكتب لأنني حي بالكتابة. بها أمكنني أن أصنع حياة ًصغيرةً موازية، عرفتني بأنبل المواضع وأجملها في قلوب الكائنات والأشياء. والوجود.
أكتب لأن الكتابة تجعل قطرة الحبر ثمينة في الحياة وخلاقة.
ولأن الكتابة بدت لي وسيلة فنية من ذلك الفن المطلق الذي أنا في أسره ويحررني، به أستطيع أن أصل من أعماق هذا الوجود حتى ما وراء الوجود، ومن كوانتم الفيزياء حتى الميتافيزيقيا.
وأكتب لأن الكتابة صارت أُكسجين الروح ووقودها. بالكلمات البسيطة أمكنني أن أصنع فناً بأبسط الأشياء، والأدوات، أرسم لوحة لا نهائية تشبه البحر، وأكتب السيرة الذاتية للرمل، وقصيدة الجبل، وأغنية الوادي، وموسيقى الكون. أؤنسن الموجودات الهائلة وأعلن حبي للأرض. ولأن الكتابة تجعلني قادراً على أن أشارك ذلك كله مع الجميع، مع كل من يقرأ ويسمع. فتصير الكلمة الواحدة بمائة لسان وشفة وأذن وعين. ترتسم اللوحات التي نكتبها في مائة ذهن فتشعر الأذهان مثلي بحاجتها للفن وضرورة الفن للحياة وحدود الفن التي تتجاوز بنا كل أفق وبصرٍ وبصيرة.
أكتب لأن جمال الوجود والكون، فن الإنوجاد والكينونة، خصب إلى ما لا نهاية، ويمكن أن نعكسه دوماً في مرايا كلمات أزمنتنا الراهنة مثلما في الماضي الجميل، مثلما في المستقبل الأجمل..

ربما لهذا أكتب..

___
* المادة مشاركة في البرنامج الإذاعي (هواء الكتابة) من إعداد الشاعر صالح العامري..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق