الثلاثاء، 17 مارس 2015

من الساحر؟

من الساحر؟
عمل الفنان موسى عمر


جلس الرواة الثلاثة في مجلس الشيخ علي الناسخ، المخطوطات مصفوفة فوق بعضها البعض على الزوايا، والمحابر والأقلام قرب الشيخ وبين يديه كتاب يقوم بنسخه، لكنه وضع الورقة التي ينسخ عليها جانباً وهو يستمع باهتمام شديد إلى شرح الرواة لعقدتهم مع القصة الغريبة؛ كانت تلك القصة كباقي القصص التي يحفظونها ويروونها عن الخير والشر، لكن فيها سرٌّ غامض يجعلُ كل واحد منهم يرى فيها شيئا مختلفاًً، وكلما أراد أحدهم أن يرويها اصطدم بذلك الالتباس الغريب، وهذه الليلة جاء هؤلاء الثلاثة إلى الشيخ علي وهو قارئ الكتب وناسخها الخبير كي يعينهم على فك عقدة القصة.
تقول القصة:
عاشت أم مع ابنها على أطراف البلدة، وكان ذلك الابن هو همها الوحيد في هذا العالم حتى أنها اختارت العيش بعيداً من خوفها عليه، وأغدقت حنانها باذلة كل رعايتها وحبها وإخلاصها له، وكانت الحياة تعني لها أن تعيش لترى ابنها الوحيد يكبر، ومع مرور الأعوام كان حب الأم وإخلاصها يكبران مع ابنها العزيز الغالي؛ وذات يوم بعد بلغ الفتى عمر الشباب وقع في حب فتاة ساحرة الجمال، لم يطق صبراً على الابتعاد عنها منذ أن رآها، ظل الفتى يلاحق الفتاة الجميلة أينما ذهبت، لا يحرك عينيه عنها بل يتأملها غارقاً في سحر جمالها الجذاب، ضحكت الفتاة من هذا العاشق الغر، وكلما ضحكت عليه كان الفتى يشتعل حباً، ظل الفتى يتبع الفتاة لا يبعده زجرها ولا تهديداتها المغموسة بجمالها، سألت الفتاة الشاب: هل تظن أنني سأصدق حبك لي لأنك تلاحقني طوال الوقت؟  إذا كنت تحبني حقاً فأثبت لي حبك إثباتاً صادقاً. أجابها الشاب بكل تأكيد وثقة: أحبك أكثر من الحياة وما فيها، ولا أستطيع السير بعيداً عنك، وكي تتأكدي من حبي الصادق فأطلبي مني ما تشتهين. فقالت له الفتاة: اذا كنت تحبني حقا فهات لي قلب أمك؟!
انطلق الشاب إلى بيتهم وهناك وجد أمه قلقة متلهفة عليه، ودون مقدمات طويلة قال الفتى لأمه: أمي، لقد أحببت فتاة ساحرة الجمال لكنها لا تصدق حبي إلا إذا جئتها بقلبك، وها أنا قد جئت إليك لآخذ قلبك وأقدمه لها دليلاً على حبي. وبكل وداعة وطيبة قالت الأم: أنا و قلبي لك يا بني، إنما أعيش بقلبي من أجلك يا نور عيني، فخذه متى تريد واعطه من تحب.
قتل الابن أمه وانتزع قلبها، وانطلق مسرعاً نحو حبيبته بلهفة من حصل على هدفه المنشود وبلغ غايته، ومن شدة استعجاله تعثر بحجر في الطريق فوقع وسقط القلب من يده. قام الفتى ونفض ثيابه وتناول القلب ونفضه من التراب فقال القلب وهو بين يديه (سلامتك يا بني). أكمل الفتى طريقه حتى وصل إلى معشوقته مقدماً لها قلب أمه، وحين وقع نظر الفتاة الجميلة على القلب بين يدي الفتى وهو يقدمه لها أصابتها نوبة ذعر شديد وصدمة جعلتها تقف مكانها دون أن تتحرك ثم ولت تهيم وقد اختلط عقلها.
تلك هي القصة.

الفنان موسى عمر

هنا قال الراوي الأول: هذه القصة بدايتها عادية كأية قصة أخرى عن أم وحيدة وابنها إلى أن تظهر الفتاة الساحرة، وهي ليست فتاة عادية وطبيعية كبقية الفتيات وإنما ساحرة يأمرها قلبها أن تحطم قلوب الناس بسحرها، ولا يمكن لسحر جمالها الطبيعي أن يجعلها تطلب قلب الأم ولكنه سحرها الأسود الذي ألقته على الفتى الغر، لذلك سحرت قلب الشاب وجعلتهُ مُغيّباً لا يعي ولا يدرك ما يفعل، فيتبعها ويتوله بحبها وحين أحكمت سحرها عليه أرادت أن تقتلعه من جذوره كي تبقيه خادماً تحت يدها طوال العمر، وهناك طلبت منه أن يأتيها بقلب أمه، ولو لم يكن الفتى مسحوراً لكان تراجع أمام طلبها الغريب، لكن السحر جعله يرى طلبها طبيعياً، وهكذا لم يشعر بأي غرابة وظن أنه يحبها وإنما هو مسحور بيد ساحرة تريد أن تغذي سحرها بأكل الأم المقتولة بيد ابنها ولا شيء يمنعها حين تمتلك القلب؛ والفتى الأحمق صار ألعوبة بيدها الساحرة التي سحرت الابن وأمه.
قال الراوي الثاني: استمعوا إلي، علمتنا القصص أن الساحر كي يكون ساحراً عليه أن يضحي بأعز شيء يحبه في هذا العالم، لذلك يقتل السحرة أبنائهم، كي تتحطم قلوبهم أمام السحر، وكي لا يحبوا شيئاً أكثر من حبهم لذاتهم، فالساحر كي يكون ساحراً كبيراً عليه أن يحب ذاته أكثر من أي شيء آخر، وفي هذه القصة ليست الفتاة وحدها الساحرة ولو كانت كذلك فما الذي يجعلها تذعر حين يأتيها طلبها؟ دققو معي قليلاً في هذه الأم التي عاشت مع ابنها وربته وحافظت عليه: لماذا تهرب بابنها عن الناس؟ ولماذا لم تتراجع حين جاء ابنها يطلب قلبها؟ ألم تشعر بأن هذا الطلب الغريب لا يطلبه إلا مسحور؟ إن الأم لم يمنعها شيء من أن ترى ذلك كله إلا إن كانت هي نفسها ساحرة، ساحرة منعها حبها الشديد لابنها الوحيد من أن تسحره كما يفترض بالسحرة، ولأنها تعرف العواقب حاولت الهرب بابنها بعيداً عن الناس، وعن بقية السحرة الذين قد يفجعونها به، ولأنها ساحرة فهي تعلم أنها ستموت بيد نفس الشخص الذي ضحت لأجله، لذلك لم تتفاجأ حين جاء ابنها لينزع منها قلبها بل أذعنت وتخلت بكل سهولة عن قلبها، ولو كانت أما طبيعية كبقية الأمهات لما فعلت ذلك ولكانت انتبهت إلى ابنها المسحور، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس، لأنها تعلم أنه لا يمكنها أن تستمر في  السحر محتفظة بابنها وأن تظل محافظة على قلبها غير متحطم؛ لقد خرقت الأم الساحرة قانون السحر حتى ارتد السحر على الساحر؛ اسمعوا إلى قلبها يتحدث بعد أن ماتت ذلك لأنها جمعت سحرها في قلبها الذي سيقدمه ابنها لحبيبته، كي تسحر به الفتاة التي تظن أنها هي الساحرة، ولذلك حدث ما حدث للفتاة حينما وقعت عيناها على القلب الساحر.
قال الراوي الثالث: ربما كنتما محقين لكن لا تستعجلوا في الحكم، انظروا إلى هذه الشاب الذي تنعتونه بالحماقة وبأنه مسحور، لقد قتل أعز الناس إليه من أجل نفسه، ثم انظروا ما الذي يريده من الفتاة التي تقولون أنها سحرته: إنه يريد أن يمتلك قلبها؛ لأن من يريد الحب لا يريد الحب فقط بل يريد أن يمتلك القلب؛ إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي نفذ كل ما تتطلبه قواعد السحر، هذا الفتى هو الذي سحرَ أمه وجعلها تعيش خادمة لحياته هو، وأمه التي ضحت بحياتها لم تكن مختارة بل كانت مسحورة، إن الفتى هو الساحر الذي يريد أن يسحر الجميع ليعيشوا من أجله، وأمه ليست أمه الحقيقية فالساحر لا يعترف بأمه، لقد عاملها كإحدى خادماته، وحين حصل على خادمة جميلة جديدة تخدمه في شبابه ضحى بخادمته العجوز التي خدمته في طفولته وصباه بكل سهولة، وعندما جاء إلى أمه كان يعلم بسبب سحره أنها لا تستطيع أن ترد له طلباً، وأحضر القلب إلى الفتاة كي يسحرها ويمتلكها به، وهكذا سحر عقلها وقلبها وجعلها تهيم على وجهها، لقد وقع سحره عليها حتى جعلها مُغيبة من السحر القوي الذي حل عليها، ذلك هو السحر الذي حطم سحر الجميع، سحر الفتاة والأم.
إن الفتى هو الساحر الأكبر الذي انتصر على الساحرتين في نهاية القصة، هو الذي رد سحر الفتاة، وضحى بأعز إنسان عنده من أجل السحر، وهكذا كان هو الفائز الأكبر في هذه القصة لأنه سحر الاثنتين من أجل ذاته.
أكمل الراوي الثالث كلامه وكانت أضواء القنديل تتراقص فوقهم جميعاً والليل قد ولى أكثره والشيخ علي الناسخ ينصت إلى الرواة باهتمام، وبعد أن أتم كل راوٍ منهم رأيه في القصة قال الشيخ علي مبتسماً:
هذه حقاً قصة غريبة، لكن أتعلمون ماذا لو لم تكن قصة عن السحرة كما تظنون، لا تخدعكم الظواهر الخارجية واذهبوا إلى المعنى العميق، إني حين أبحث عن معنى القصة الحقيقي أراها قصة وضعتها ربما أمٌ هجرها ابنها الوحيد وسافر عنها إلى السواحل البعيدة مع زوجته، لأن معنى القصة يتحدث عن الزوجات اللواتي يخطفن الأبناء من أحضان أمهاتهم باسم الحب. وعن قلوب الأمهات الوحيدات المرمية على التراب. وأرى فيها إشارة للزوجات بما سيصيب قلوبهن يوماً كما أصاب الأمهات اللواتي تحطمت قلوبهن بيد الأبناء.
قال الشيخ ذلك وصمت برهة، ثم تناول الورقة التي كانت في يده مكملاً النسخ في هدوء شديد، ظل الرواة الثلاثة مكانهم ينظرون إليه وقد علت وجوههم مسحة التفكير العميق، ثم استأذنوه ومضوا في ظلام الليل واجمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق