الجمعة، 4 نوفمبر 2011

الكعبة أول بيت للناس

الكعبة: أول بيت للناس
الثلثاء, 16 أغسطس 2011
ابراهيم سعيد -
إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [آل عمران : 96]
1.
الكعبة في اللغة سميت كعبةً لارتفاعها وتربعها، ويقال لما يبرز كعبٌ وكاعب.
أتأمل صورة الكعبة في الشاشات وأتسائل لماذا تكون الكعبة أخفض مبنى وسط ذلك البناء المتشامخ عليها، تشامخاً اسمنتياً، ملحياً، بكهرباء كشافاته الضوئية القوية، وهي هناك تقف في اطمئنانها، وسط البنيان المتعالي الذي عجز عنها فلا هو دائري حولها، ولا مكعب كما هو مقترحُ بيت الله العمراني.
الكعبة ببنيانها المرصوص منذ القرن الثامن الميلادي بيد واحدة من أبغض الشخصيات الإسلامية (الحجاج بن يوسف الثقفي) الذي:
(حاصر ابن الزبير في الكعبة وأمر برميها بالمنجنيق وحدث أن تجمعت غيوم راعدة فنزلت صاعقة على جيش أهل الشام وقتلت عدداً منهم. فتطير الشاميون واعتبروا ذلك رداً إلهياً على قصف الكعبة. فأوضح لهم الحجاج: «أنا ابن تهامة وهذه صواعقها» وطلب إليهم التريث حتى يصيب عدوهم ما أصابهم.. وفي اليوم التالي نزلت صاعقة على جيش ابن الزبير وقتلت عدداً منهم.. وبذلك استطاع تجاوز الأزمة في معسكره(
هادي العلوي، تاريخ التعذيب في الإسلام
(البَنيّة) بيدِ الحَجّاج، أي المبنية (بين البنية والستر) جرير. الحُجّاج يطوفون وهي هي، متدثرة بكسائها الأسود الصامت، محتضنة حجرها الأسود الذي سرقه القرامطة في يناير 930م وضعوه على قبة مسجدهم، ولم يسترجع منهم إلا في 952م من القرن العاشر، هو نفسه الحجر الأسود الذي يقبّله الناسُ الآن، وكانَ الناس يقبلونه بركوع، ذلك الركوع لم يعجب محمد علي باشا فرفعَ مكان الحجر الأسود للأعلى في القرن الثامن عشر ووسع قطره.
الحجر الأسود الذي تزعم الرواية أن الحاكم بأمر الله الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي أرسل رجلاً ليحطمه، فقتله الناس بعد ضربته الأولى للحجر، ورواية تزعم أن مجهولاً لطخه بالعذرة ليصدّ من يقبلون الحجر في 1674م
ثم لم تكن مكة إلا تاريخاً طويلاً من المعارك والحروب منذ فتح مكة حتى نهاية حكم الأشراف والدولة العثمانية، كانت كل حربٍ تزورها، كأنما الحروب تعتمر! والفتن تحج!!
2.
الكعبة ذلك البناء الذي يشعر المسلمون أنه يمثل منتهى الطهر، غاية الوضوء والضوء، ذلك البيت الإلهي يحضن نيزكه الأسود، حجراً مندمجاً بركنها الشرقي الجنوبي، قرب بابها العالي. الباب الرفيع الذي يقارب ارتفاعه المترين عن سطح الأرض. بابٌ وسلّم مفقود، سرقه الزمن وأحداث التعرية، ولم يفتقدهُ أحد. ليسأل: أين السُّلم؟
الكعبة وحجرها، وسترها وحطيمها. ضلعها المتحطم في ذلك القوس الرخامي المبني على جانبها الشمالي.
ولهفتها لتلك الضلوع التي حطمتها مجانيق الحجاج، تلك اللهفة التاريخية الطويلة.. الطويلة.
كما لو أن سيلاً جديداً مرّ عليها وجرفها، وأيادي الأنبياء بعيدة.. بعيدة. «1»
3.
الكعبة التاريخية، والماثلة أمام المليار والستمائة ألف مسلم، خمس مرات في اليوم، خاصة في رمضان، البناء المعظم الذي يزوره في الحج ثلاثة ملايين مسلم تقريباً ومثلهم تقريباً في رمضان.
واقفة أمامهم جميعاً، أمام المشاهدين البعيدين خلف الشاشات، وأمام الزوار، في صمت الحجر، ينطقُ شكلهُ كالكلمة، رمزاً لبيت الله، على هذه الأرض. بيت الله المتواضع جداً والصغير المتقشف جداً يتبرأ من أفكار الأغنياء، من تقديسهم الذهب، بيتٌ يعتذر للفقراء والمساكين والمشردين والجوعى والمظلومين عن الذهب الملصق بجسده.
أيها الذهب المخادع كيف وصلت إلى الكعبة؟ أيها الذهب يا صنمَ العصر، وإله الدهور الجشعة الطماعة، ربّ الحروب والكراهية، كيف تجرأت أن تصل إلى باب الكعبة؟ أراك أيها الذهب على كل المباني الدينية المقدسة، زينة محرّمة؟ الفضة أكثر تواضعاً وصدقاً وبهاء.
4.
متواضعة، تستقبل الصلوات من بقاع الأرض الأربعة، جهةٌ في الكرة البيضاوية، جسمٌ أسود يمتص الضوء الصادر عن الصلوات، القادم من كل القباب والمآذن والمحاريب في فلك هذه الأرض، من كل سجادة، من كل روحٍ تصلي بقدر إيمانها، تستضيف تلك الصلوات في صدر جدرانها الأربع وزواياها القائمة الثمانية، وترفعها لله.
الكعبة شاهد على أمل الناس ورغباتهم وأدعيتهم واعترافاتهم، وجرائمهم: روحٌ معذبةٌ تبكي عند الحجر الأسود، أخرى عند المقام، ثالثة عند زمزم، الأرواح ترتبك أمام كثرة الأشياء المقدسة في أمكنة متقاربة تنفضُ الروح نفضاً لتذكرها بزمن ما قبل الخلق.
5.
أشياء مقدسة، من الكعبة ذاتها، إلى مقام إبراهيم، إلى بئر زمزم، إلى الصفا والمروة، ودائماً إلى الشرق، إذ ليس في الغرب أي شيء مقدس، الجهة الغربية جهة متروكة! رغم أن البطحاء تمتد جهة الغرب في تصميم المدينة «2» ، والجبال شرقها، رغم ذلك تتناثر أشياء الحرم المقدسة إلى الشرق فقط، وسط الجهة الجبلية، واثنان من الجبال انضما لقداسة الكعبة، لأن أماً مرةً هرولت عليهما تستطلع قادماً، وتفكر في النبيّ. وترضع النبي.
أمٌ وحدها وسط المقدسات، في مكانٍ مقفر، لا شيء إلا قواعد مندثرة في مكان الكعبة، قواعد ربما من أعماق التاريخ. أو منذ بدء الأرض هناك، كأنها سر الأرض، وحبلها الإلهي السري، وسرتها.
6.
تتدثر بثوبها الأسود، الأسود على الدوام، لا ترفعه إلا في الإحرام. لتظهر بطانة الثوب الأسود بيضاء بأخضرها الشفيف أو خضراء أمام بطانة داخلية بيضاء. ترفعهُ ثلاثة أيام النحر، كأنها ترفع ثوبها عما يسيل على الأرض من دماء الأضاحي..
الكعبة، ليست في الصور التي يعود بها الحُجاج أيها الطفل الصغير، الكعبة في بث حيّ ومباشر على الفضائيات، مصحوبة بشخصية صوتية مميزة تتلو القرآن، شرطيّ ما على باب الكعبة، يلبس الأخضر، يتعلق بحبل الأستار، يدفع الناس عن الحجر. (والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، إنما أنت حجر لا تضر ولا تنفع) عمر بن الخطاب.
لكنهُ هناك، حجرٌ أسودٌ ترتبط بوضعه الأول في مكانه أيادٍ نبوية، منذُ إبراهيم وإسماعيل، ومحمد يدٌ كريمة تصلح النفوس، يدٌ تحكم بين الناس وتضعه في مكان القلب من الكعبة. حجراً أسوداً كما لو أنهُ قلبٌ نابض، قلب صامتٌ ينبضُ في صمتها.
والكعبة نفسها قلبٌ نابضٌ للمدينة، فقلبٌ عالميٌّ من العبادة. (القلب بكل تناقضاته هو بيت الله الأول) رجاء عالم «3».
7.
الصمت الذي لأول بيت، ألهذا كل البيوت صامتة رغم الحب الذي نكنه لها؟ لأن أول بيت صامت.
والحجر هناك وسط قفصه الفضي، حيث اللون الفضي الوحيد الذي يزخر بضياء قمري عجيب..
عينٌ مقعرة في حجر، وأجفان فضة.
8.
لماذا لم يفكر أحدٌ بالنخلة؟ هذه الكعبة فأين النخلة؟ هذه زمزم فأين البستان؟
لكن زمزم مالحة: تباركتَ أنهار البلاد مليئة بعذبٍ وخصت بالملوحة زمزمُ. المعري
الأرضُ جبلية فلا زرع، وادٍ لا زراعي : رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم : 37]
9.
الصفا والمروة كأنهما الحائط الشرقي.
الصفا والمروة (المروة؟!) ورواية عن رجلٍ اسمه صفا، وامرأة اسمها مروة، زنيا فمسخهما الله جبلين، رغم أن ابن بطوطة يحكي في زيارته للبيت الحرام عن أعرابي وجدَ يزني في الحرم فسامحهُ القضاة لجهله بحدود الدين.
لكن الجبلين هناك، حيث هرولت الأم التي رعت أصول الدين، تبحث في الأفق عن شيء، عن ماء لعطش الوليد، والماء تحتَ قدمي الرضيع.
والرضيعُ يكبر نبيّاُ، والأب يعودُ نبياً «4» يجتمعان ليرفعا القواعد الأزلية، لله. بيتاً سيعني للعالم شيئاً فخم التقديس، جميل الإستعارة، قبلةً للصلوات.
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة : 127]
قواعد الكعبة الأولى، القبة المكعبة.
10.
الحرم قبل إبراهيم وأهله بلقع مقفر، وادٍ مهجور، يتحول ببطء مع الزمن لمدينة، وسكان متبدلين من القبائل، من جرهم فقريش العرب.
الكعبة سحرٌ في وادٍ مقفر يجذب الناس، لا ظل ولا واحة، إلا شربة ماءٍ مالحة من زمزم الدين، الدين وحده يجذب الناس والقوافل، يأتي بتجارة العالم الشامي واليمني، كل صيف وشتاء إليها.
وحلم إبرهة الحبشي تملأهُ الطير الأبابيل بحجارة من سجيل.
وبيتٌ شعري لعبد المطلب ابن هاشم جد النبي: (لاهُمَّ إن العبد يمنع رحلهُ فامنع رحالك/ لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك/ إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدالك) رغم أنها لم تكن قبلةً أيامها إلا استعارة، لكن الرواية قائمة.
11.
عبدالمطلب، فعبدالله، فمحمد النبي، الإسم الذي ستجدهُ في لوحات منقوشة في الحرم كله وداخل الكعبة.
داخل الكعبة: الأعمدة الثلاثة، واللوحات المنقوشة على الجدار، وباب التوبة الذهبي، ومنضدة بين عمودين، والثالث أبعد، وثريا هائلة ضخمة تملأ سقف القبلة بأكمله.
القبلة بداخلها وخارجها صامتة، البنيان الصامت المتدثر بسواده ليستقطب ضوء الصلوات المنبعثة من جهات الأرض المختلفة، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه[البقرة : 144]
كان النبي قبل ذلك يصلي قربها وقبلته بعيدة هناك في بيت المقدس، وكانت يساره كما هي الآن صامتة.
قبلة، وجهة الصلاة، وكل بيتٍ كان ينفعُ قبله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس : 87]
فكرة البيت نفسها إلهية!!
13.
فوالله لولا الله والخوف والرجا لقبلتها بين الحطيمِ وزمزمِ. والمقام هو الذي بين الحطيم وزمزم، كان يريد أن يقبلها كالصلاة.
الشعر والكعبة متدثرة بالقصائد المعلقات، وفيها كل تلك السير المليئة بالحب، كل تلك الأبيات العاشقة، والأشعار الفخورة، والأخلاق المترفعة في الأبيات، والأسماء الرفيعة لشعرائنا القدماء، الذين بثوا قلوبهم في الكلمات. قصائد معلقة على جدار الكعبة، لتقرأ في الطواف والصلوات.
-------------
1- صهل أفراس الحرب على أبواب الكعبة يا أهل الشام ووحدي/ أبسط للملتجئين إلى ظلّ الأحجار السوداء ردائي.
سليم بركات، وجهي العصري
2- تنظر من أعلي إلي الكعبة. والناس يدورون حول الكعبة في أشكال هندسية. هي تجربة رائعة. ما ضايقني أنه لم يكن هناك موسيقي. لا يمكنك قراءة الشعر ولا شرب القهوة في شوارع مكة وجدة والمدينة. كيف يمكن الحياة بدون موسيقي؟ تخيل لو كان العالم كله مثل السعودية؟!
إيليا ترويانوف روائي ألماني.
3- أعتقد أنني محظوظة بالولادة في بقعة يتعارف خمس سكان الأرض على كونها بيتاً لله.
رجاء عالم.
4- عذت بما عاذ بهِ إبراهمُ مستقبل الكعبة وهو قائمُ/ يقول أبقى لكَ عانٍ راغمُ مهما تجشمني فإني جاشمُ. زيد بن نفيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق