السبت، 12 نوفمبر 2011

قصيدةالنثر في حانة الكلب

قصيدة النثر في حانة الكلب



"وجدتُ نفسي نائماً في حانة السلحفاة والأرنب في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد"، حانة الكلب حانة صغيرة على طريق إل كامينو ريال El Camino Real، والتي يترجمها سركون بالطريق الملوكية وهي الطريق التي كان يسلكها كهنة المكسيك إلى الأديرة المقدسة في كاليفورنيا، حيث لفتت انتباه سركون بولص يافطة غريبة وهو يقود سيارته، "استرعت انتباهي في الحال وتوقفتُ عندها كأنني وجدت سرّ أمريكا أخيراً: "حانة الكلب".


حانة الكلب على طريق الكهنة الملكي إلى كاليفورنيا، البلّة التي زادت طين المعنى كما يصفها سركون، لأن الملوك هنا هم ملوك الروح؛ يحول سركون بولص حانة الكلب إلى اسم ليس للحانة وحدها ولا القصيدة التي يصدّرها سركون بولص باقتباس من جلال الدين الرومي "إذا كنت نائماً في مركب نوح وأنت سكران ما همكَ لو جاء الطوفان"، بل تصير حانة الكلب اسما وعنوانا لحالة ومرحلة طويلة يتقاطع فيها الذاتي والكوني، الألم والسخرية والألم والسخرية؛ سيضم سركون بولص قصيدة حانة الكلب المكتوبة في 1975 إلى ديوانه إذا كنت نائماً في مركب نوح والمنشور عام 1998، لكن لماذا لم تكن حانة الكلب من قصائد ديوان الوصول إلى مدينة أين؟ المنشور في أثينا 1985؟، ما نحن متأكدون منهُ هو أن حانة الكلب لو نشرت في أين أو في الحياة قرب الأكروبول أو أي ديوان آخر غير مركب نوح فإن ديوان مركب نوح لن يكون اسمهُ: إذا كنت نائماً في مركب نوح.
حانة الكلب كما سيشرح لنا سركون في نهاية الديوان قصيدة مفصلية في حياة سركون بولص الإبداعية، لأن بعدَ هذه القصيدة ليس ما قبلها أبداً، فبعدَ حانة الكلب سيأتي ديوان الوصول إلى مدينة أين، فمرحلة أين و نوح، "مرحلة واحدة تقريباً بدت لي فيها جميع منافذ الكتابة بالعربية، لأول وهلة، مسدودة في وجه التجربة الجديدة التي كانت تكتسحني آنذاك" من الواضح أن التجربة الجديدة التي يقصدها سركون هي: قصيدة النثر، والمنافذ العربية المسدودة أدت لتوقفه عن الكتابة منقطعاً عن التواصل مع "عالم النشر أو التركيبة الثقافية العربية بأكملها التي كنت أراها، آنذاك، بعين أودن الساخرة عندما قال في قصيدة له: "يتكلمون عن فن الملاحة، بينما تغرق السفن"".

يعود سركون للنشر في منافذ السفن الغارقة إثر رسالة يتلقاها من أدونيس في عام 1972م، ويهدي سركون ديوان مركب نوح إلى يوسف الخال الأب في ذكراه الخالدة وإلى أدونيس سيد الهجرة في أقاليم النهار والليل، يمكننا أن نضيف إلى الأسباب المعروفة عن الإهداء إلى يوسف الخال هي الملاحظة التي أبداها يوسف الخال لسركون حول محاولة سركون الكتابة الصوفية "شو بدك بهيدي القصة؟!" قال يوسف، لكن سركون يمعن في القصة دون أن يخشى من اختلاط صوته بالأصوات فيضع اسم الديوان من جملة لأحد أشهر أئمة الصوفية خارجاً بالصوفية من تصنيفها الكلاسيكي إلى تصنيف شعري تحسبُ فيه للصوفية وثبتها الشعرية، وهو ما يدركه سركون ويضع على نبضه إبهامه.




حانة الكلب لا قراءة واحدة تكفي ولا أي رقم مقترح من القراءات، إنها من تلك القصائد؛ لأن القارئ سيكتشف أن النائم في مركب نوح ليس الرومي ولا سركون بولص بل هو أنت : "وجدتُ نفسي نائماً في الجانب المظلم من العالم أنقب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ يربطني بك، أنت، دائماً وحتى أنني أتردد في أن أسميك لأنك، لستَ امرأةً أو الأرض أو الثورة: شجرةً فقيراً حذاءً في الطوفان لا أسمي أحداً بالضبط لكنني أريدكَ أن تشعر بخطورة القضية!"، أنت موجود في حانة الكلب، وأنت شجرة أي أخضر، فقيراً أي تشعرُ بالألم، حذاءً في الطوفان أي لا حولَ لك، كي تشعر بخطورة القضية، هل تشعرُ بخطورة القضية؟، قد نتساءل أي قضية هذه التي علينا أن نشعر بها؟ إنها القضية التي يفتتح بها سركون قصيدة حانة الكلب " لا أخفيكم أنني أنا أيضاً أفكر أحياناً بماهية الشعر بخطورة القضية" (ماهية الشعر) لكن لن نستعجل لأنهُ ليس الشعر المكتوب، ولا المقروء، بل الشعر العام شعر الحياة، ففي بداية القصيدة كان سركون بولص يفكر في: "فقر العصافير الاسطوري" العصافير المغنية المغردة، مغنو الوجود الفقراء، فقر المغردين والمغردات على الأيك والغصون، العصافير الفقيرة التي تجمعُ الحَبّ من على الطرقات، والمزابل، فقر العصافير التي يتبجح البشر الأغنياء أمامها برمي الحب لتلتقطه، سواءً في الهايد بارك أو في الحرم المكي، فقر العصافير الذي نعرفه، الفقر القديم، الأسطوري.

ويجد سركون نفسهُ نائماً في أغلب الأحيان "وفي أغلب الأحيان وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجلٍ نائم تحتَ جبل وأركله لأوقظهُ برفق أولاً ثم بتهور وصراخ حتى يستيقظ، ويوقظني" النوم تحتَ الجبل، نومٌ خطِر متهور، كيف ننام تحت الجبل وكل حركة في أعلى الجبل تعني سقوط حصاة، لكن من هذا الرجل النائم تحتَ الجبل في موقع الخطر؟ من هو الرجل الذي إذا استيقظ يمكنهُ أن يوقظني؟ هناك واحدٌ فقط إذا استيقظ يمكنه إيقاظي هو أنا نفسي!، سركون بولص النائم يحاولُ إيقاظ نفسه.

النوم أم اليقظة؟ وهل من فرقٍ حقاً "وأحياناً يكونُ الفرق الوحيد بين الحياة والنوم هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد، بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظ، بواسطة حذاء حتى إذا لم يكن هناكَ جبل حتى إذا لم يكن هناك!" لا هناكَ ولا الجبل، فـ(الفرق الوحيد) ليس بين الحياة والموت، ولا بين النوم والموت، بل بين الحياة والنوم، علاقة زجاجية بين مصادفة/ قصد، بين إيقاظ /استيقاظ، حياة/ نوم، لنستعيد هنا أن الذي في مركب نوح سكران نائم، إنها الحياة النوم، اليقظة النوم والنوم الحياة، والحياة السكرة.

في فجر حانة الكلب، في بداية النهار حيث لم تتضح الرؤية بعد ولم تشرق الشمس يقع المحذور "ذات فجرٍ يقعُ المحذور ينتقلُ فيه نبعُ القرية من وراء السياج إلى فم رجلٍ نائم يرصعهُ الظمأ" النبع ينتقل إلى فم الرجل النائم "الحياة النوم" الظامئ جداً، ظمأهُ صحراء تهيلها فرقة أعداء مدربة في قصبته الهوائية طوال الليل، ظمأ هائل لأنه ظمأ صحراوي: ظمأ أساسي؛ ويقعُ المحذور فينتقلُ نبع القرية إلى فمهِ الظامئ بقصبته الصحراوية، نبعُ القرية هنا والفم أي الكلام، التغريد، القصائد، الشعر واللغة، النبعُ يصيرُ قصيدةً في فم الرجل النائم الظامئ تحتَ الجبل.

يقع المحذور: "يحظرُ التجول ويُفشى السر تحتَ شبكة الأحكام العرفية غيمةً واطئة" السر يُفشى غيمة واطئة تحتَ شبكة الأحكام العرفية، المحذور في انتقال النبع وحظر التجول، والسر شبكة وهمس غيمة أي لغة وكلام "تركبُ أبخرةَ النهر" النهر الماء، والكلام الماء، والنبعُ الماء، وهمس الغيمة والظمأ الشديد، "أو ربما كنتُ أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة"؛ التورية ربما هي المسؤولة لكن عن ماذا؟، هل عن المخلوق الأخضر!، لأن التورية "ترفعُ بالسطل مخلوقاً أخضرَ كان ينامُ بانتظاري في بئر السبعينات ومنذ الطفولة" البئر الذي ترفعُ منهُ التورية المخلوق الأخضرَ النائمَ منذ الطفولة البعيدة، لأن التورية لا تعني فقط اللعب بالكلمات، وهنا قرب البئر تعني التورية اللعبَ بالماء، "أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح" ضد الجاذبية، ولماذا لا نؤمن ببساط الريح إيماناً أعمى؟ ما دمنا نعرف أن "القصائد لا تحتاجُ إلى مجذاف لتعبرَ بنا جميعاً إلى الضفة الثانية وكل كلمةٍ فيها، كوة سرية يتجسس منها الماضي على الأحياء" القصائد تدلنا على وجود بساط الريح ما دامت تنقلنا إلى الضفة الثانية، وكلمات القصائد كوىً يتجسس منها الماضي الميت على الأحياء، أي أنها أيضاً بساطُ ريحٍ زماني أيضاً وليسَ مكانياً فقط؛ قِدمُ الكلمات واللغة يجعلُ منها عيوناً للماضي ما دامت الكلمات واللغة قادمة من الماضي، ولا تستطيع إلا أن تأتي من جهة الماضي، هكذا يصيرُ الزمن في القصيدة ممكنا لذهاب الماضي وعودته، مثلما تستنهضُ القصائد الآباء والأجداد دوماً ليروا ما حلّ بالأبناء والأحفاد، القصائد مكمنُ الأعين القديمة التي تراقبنا، ونشعرُ بها، هكذا تحتفظُ القصائد داخلها بعيون الشعراء القدماء "حقيقةً ومجازاً"، وهكذا في قصيدة حانة الكلب سنرى عيون شعراء الماضي تعود لتتجسس على الأحياء.

يعود جبران خليل جبران حالماً في نيويورك، وأبو فراس الحمداني أسيراً لدى الروم، ويعود المتنبي مضمراً في "الديوان المهيأ لرملٍ لا يعرف مستقراً ينتظرُ قافلة منسية في بئر الآلاف بيدين ضارعتين" ويعود أبو العلاء المعري في الأعمى الذي نظرَ إلى أدبي، والياء للمتنبي المضمر في الياء وفي الاقتباس من بيته الشهير؛ ويعود المعري في شخصية الرهين أيضاً "حيث الشعراء يطالبون بأن يُسملوا ليفتحوا حواراً مع رهين المحبسين" شعراء يجوبون ظهر مركب القصائد يَظهرون في حانة الكلب، والقضية الشعرية خطرة لأنها اتهام بموت الشعر، اتهام بقتل الشعر على يد التجربة الجديدة: قصيدة النثر؟! اتهام نراه في المقطع التالي بوضوح "أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك كأنني فتحتُ حنفية المحيط بمطرقة" مطرقة سركون بولص الشعرية هنا والتي يحاول بها فتح حنفية المحيط تذكرنا بالتفلسف بمطرقة لنيتشه، لكن سركون يكتب الشعر بمطرقة، يفتح حنفية المحيط بمطرقة، لكن أي محيط هذا؟ إنهُ المحيط الذي في القاموس المحيط للفيروزآبادي مثلاً، أو المحيط الذي تغرق فيه السفن عندما يتحدثون عن فن الملاحة، المحيط المحيط نفسه، محيط اللغة الذي تتهادى فوقه سفينة المخلوقات، سفينة نوح.

"وعندما أكادُ أنسى العربية أغمضُ عينيّ وأحلم لأستحضرَ المعجم من الذاكرة في رأسي مركبَ نوح في بحر متلاطم" اللغة التي عندما يكاد ينساها يغمض عينيه ويحلم أي ينام فيستحضرها، العربية التي في المعجم الذي في  الذاكرة، والمعجم وسط مياهِ الأزمنةِ هذه يصير مركبَ نوح في البحر المتلاطم من المخلوقات "تدوزن كل سمكةٍ فيهِ حراشفها وهي تسبح في/على عتبة/ خارجَ نافذةٍ مشرعةٍ على مصراعيها وسط لساني موسيقى ربع اللحن" أسماك البحر المتلاطم تدوزنُ حراشفها! أيُّ أسماكٍ مدوزنة هذه إلا الكلمات، إنه ليس مركبَ نوح ولكنهُ المعجم، وليس البحر المتلاطم من المخلوقات ولكنه محيط اللغة، وتلك الأسماك/الكلمات تسبح في ثلاثة مواقع من النافذة المشرعة وسط لساني (في/ على عتبة/ خارج النافذة) الكلمات هنا أو الأسماك المتوزعة، الأسماكُ التي تقال، الكلمات التي في ثلاثة أمكنة: منا، فينا، وخارج النوافذ التي في ألسنتنا؛ النوافذ: الأفواه تعزفُ موسيقاها، الكلمات التي تسبح تُعزفُ على "موسيقى ربع اللحن بيات أصفهان سيكا همايون الشرقُ يدندنُ على العود في آبار الجهة الغربية" الشرق يدندنُ عود الأسماك/الكلمات، في داخلِ آبار جهة الغرب، من الآبار المظلمة تخرجُ أصواتُ المعجم الغارق، معجم المركب: مركبُ نوح، وأسماكه وكلماته التي تسبحُ في ثلاثة أماكن من أفواهنا، من الآبار التي في جهة الغرب، هناكَ حيث كان سركون بولص مرةً، فهل تسمعون عودَ الآبار ذاك في تلك الجهة؟

يأتي النذير أولاً على فم الراوية "يظهرُ راويةٌ ذئبٌ مهلهل الثياب حادٍ يهلهلُ هامساً يهمهمُ بالهلاك يروي عليّ كالسيل ويلَ الشعر" (الويل للشعر) همهمة هلاك تأتي على لسان الراوية الذي يريد التنبؤ، وكما أسلفنا في أقرب العميان الذي يهمهم بالهمس يهلهلُ بالهلاك كأنني فتحتُ حنفية المحيط بمطرقة، إنه التعبير عن مرحلة التجربة الجديدة في 1975 عام حانة الكلب، أو بالأحرى "بئر السبعينات"، اذا استخدمنا توريات حانة الكلب، ومن فجر المحاذير حيث انتقل نبعُ القرية إلى الرجل الظامئ، ومن أسماك مركب نوح، والعيدان التي في الآبار وبالضبط من النوافذ التي في الأفواه يخرجُ الشعر "الشعر: رأسٌ مشعث يثبُ من مناماتي من قراب ذاكرتي" (الرأس المشعث) "رأسٌ يثبُ فجأة من خندق فمي حين أفتحُ شفتيّ من الظمأ يتسلقُ أسناني أكياساً من الرمل هاجماً إلى الأمام شعره مشعّثٌ ولكن في فمهِ كالإعجاز تتذأبنُ الحمامة يهدلُ الذئب" الشعر المشعث، غير مصفف إن شئنا ولا مُرَجّل، هو مشعث خالٍ من التزويق لأن هذا (الرجل لا يجد ما يُرَجِّل به شَعره)، إنهُ الرأس الناهض من النوم في الريح والصحراء والبحر والعاصفة والإعصار، إنهُ يخرجُ من ذاته وفي ذاته، يخرجُ الشعر ذاته في قصيدة هي شعر من ذاته بهيئة رأس مشعّث، متجاوزاً القالب كي تتذأبن الحمامة على يديه ويهدل الذئب بالضبط في فمه يحدث الإعجاز؛ وقلعة الأوهام، قلعة عموم الأوهام هذه هي التي ستنتقلُ من مكانها وتنقذ الشاعر من التبول في فوانيس القطارات لتنام الصحراء ويستريح التراب، ومن جديد يجد سركون بولص نفسهُ نائماً في حانة الكلب.

"لكننا نبدأ عادةً بالبداية أي الخروج بكل ما نملكهُ من الصدق نحو الفريسة التي ستقودنا إلى قلب المعنى لأن المعنى دائماً هناك يدخنُ صابراً في نهاية القصيدة منتظراً وصولك وهو يبتسم باحتقار" تلك هي القصيدة التي يدافع عنها سركون بولص أمام نبوءات الهلاك وويل الشعر، القصيدة التي يبحث عنها سركون عند حنفية المحيط بمطرقة، وما يريده سركون هو: "أردت أن تكون هذه قصيدةً تجربُ فيها أن تهاجم نفسكَ بالقلم بالجوع والمشاعل والحجارة؟ ليصب بعضُ الدم في حضن القارئ؟" تلك هي القصيدة التي تدلنا عليها قلعة أوهامنا، الذهاب إلى المعنى هو المقصود، وبكل ما نملكهُ من صدق، الوصول إلى الشعر الذي ليس في الشكل لكن في المعنى، والخروج من تنظيرات الأشكال إلى موقع المعنى حيث يدخن سجائره، على الأقل كي يمكن أن يصب بعض الدم في حضن القارئ، "لكنني ويجب أن تصدقني (أعلم أنك ستصدقني!) أؤمن بأنها ضرورية إيماناً غريباً يفاجئني لأنني لست واثقاً من نفسي حين أقول هذا" لحظة الصدق التي في عدم الثقة والإيمان الغريب، الرهان ليس على ما تقوله البراهين ولكن على الداخل، على الصفاء المؤمن خارج حسابات الشروط الخارجية. أي الخروج بكل ما نملك من صدق.

لا تتوقف حانة الكلب عن الإبحار على ظهر مركب نوح في الطوفان، فبعدها نجد أنفسنا في سان فرانسيسكو وسيجارة في أعماق الليل، ورغبة في مناقشة الشعر مع أصدقاء مرعوبين من طَرقات الأبواب ليلاً، يظنون أن نظام بلدانهم جاء ليلاحقهم هناك، أو في الصباح في فلمور مع أصدقاء فلسطينيين في دكاكينهم المسيجة بالقضبان في أحياء الفقراء، وبلاد العرصات، حيث "بدك تشنق حالك، مش هيك؟" و "كيف حال الشعر؟"، هنا يتحول سركون بعد مثالٍ مقلوب عن الهمّ الذي هنا وينعكس هناك ليروي الهمّين معاً، عن شرح حالة سان فرانسيسكو ليذكرك بمحمولها، الحديث عن بلد المهاجر يعني الحديث عن البلدين معاً في نفس الوقت، وليسألك بعدها "لعلك أدركت قصدي، من الواضح كما ترى أنني أهدفُ إلى شيءٍ غامض قليلاً لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهى البساطة أيها الصديق لا أريدك أن تسيء فهمي هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة أذكر هذا لكي لا تتهمني بأنني تأثرت في كتابتها بشاعرٍ (عالمي!)" سخرية القوسين من الـ(عالمي) لأن كل شاعر يكتب في أي لغة هو شاعر عالمي؟ إنهُ الحديث عن العالم حيث نعيش كلنا مؤقتا بالدين هذه المرة، من هم هناك ومن هم هنا: في العالم.
العالمية والمحلية وكتابة الشعر ستكون على الحالة التي يصفها سركون في نفس الحانة نفسها "حيث كل شاعرٍ يخاطر بالكتابة على هذا النحو لن يكون حتى محلياً! وسيقضي سنواته الباقية بعيني نسرٍ محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت الشهرية" صاحب البيت الذي سيأخذ دور السلطة على الرجل الفقير، فيأتي وهو يعرف جيداً أن الرجل الفقير لا يستطيع أن يدفع الإيجار، لكن للتسلية، أو إشباعاً لنزعة غريبة في الإرهاب "أو ربما لأن الكلب يعرفُ أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه يقرع الباب بحذائه، وخصوصاً بالكعب المليء بالمسامير.."، ذلك الشاعر " سيقضي سنواته الباقية إذن بانتظار الجلاد الذي سيأتي متنكراً ببدلة ممرض رسمي طيب القلب يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترةً للمجانين." الشاعر سيقضي بقية سنواته بانتظار جلاد، الجلاد الذي قتل نفسه ولبس بدلة الممرض الرسمي يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترة للمجانين ويتقدم.

(ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة.)
هكذا تنتهي قصيدة حانة الكلب ولا تنتهي، بل تقطع، لنجدَ أنفسنا نائمين، نحاول إيقاظ الرجل النائم تحت الجبل، متراهنين على رداءة الأشربة في حانة الكلب، وعلى أن النوم بعد سكرتها في مركب نوح لا يُنيمنا عن هم الطوفان، فالطوفان قادم، أعِدّوا الأحذية.

هناك تعليقان (2):

  1. جميل جداً
    أحب سركون بولص ولكن ليس هذا وحده الجميل لكن عرضك التداخل والتقطيع لنصوص بولص مع كلماتك وتحليلك ممتع

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً جزيلاً
      من كرم ذوقك هند، أتمنى أن تليق بمقام الشاعر الراحل الجميل

      حذف