السبت، 12 نوفمبر 2011

التيه الهندي أو تثبيت الدوار داخل ينبوع الصور أوكتافيو باث

التيه الهندي أو تثبيت الدوار داخل ينبوع الصور

شجرة أوكتافيو باث

غلاف كنتُ شجرة وتكلمت بستان حروف
(جئت إلى هنا/ كما أكتب هذه السطور/ بلا فكرة ثابتة)
إذا كنت ظمآناً فأنت ظمآنٌ لروح الماء، حين تمسك كتاباً بيديك تتغير الأمكنة تحت قدميك والفضاءات؛ أكنت أمسك الكتاب بيدي أمس، أم أن الكتاب كان يمسك بيدي اليوم؟ عيني تقرأ أم تستغرب؟ لا أعرف، أذكر لكنني: لا أعرف؛ أكان فتح العيون قراءة أم تأملاً، أذكر لكنني: أحاول الكتابة كي أداوي مرض القراءة هذا.
لماذا يتكئ أوكتافيو باث على الشرفة ولا يستمع للنصيحة التي يحفظها؟:
(متكئاً على الشرفة/ أرى/ (لا تتكئ/ إذا كنت وحيداً، على الدرابزين/ يقول الشاعر الصيني)/ إذا كانت هذه البداية بداية فهي لا تبدأ معي/ معها أبدأ، فيها أدوم/ متكئاً على الشرفة)
البستان والينبوع
هذا ليس أوكتافيو باث الشاعر المكسيكي الحائز في نهاية حياته على نوبل الأدب 1990، بل هذا ينبوع صور كان شجرة، مرة كما في القصيدة التي العنوان منها: (كنت شجرة وتكلمت بستان حروف) ومرة أخرى شجرة يسير حفيفها ينبوع صور:  (كنت شجرة وتكلمت/ مغطى بأوراق وعيون/ كنت الحفيف سائراً/ ينبوع صور)، ينبوع صور يصدر من صوت: الحفيف، كلام الشجر.
في القصيدة الرائعة حكاية بستانين والتي مطلعها: (إن بيتاً أو بستاناَ/ ليسا مكانين/ إنهما يدوران، يذهبان ويؤوبان/ تجليهما:/ يفتح في الفضاء فضاءً آخر، زمناً آخر في الزمن)، في هذه القصيدة نعرف أن أوكتافيو باث كان شجرة لأن جده البستان: (كنت طفلاً/ وكان البستان جدي/ أتسلق ركبتيه النباتيتين)، وحين يكون المرء شجرة، وسليل بستان، فإنه يتعلم علوم الأشجار: (علمتني أشجار الصنوبر كيف أتكلم وحدي/ وفي هذا البستان تعلمت كيف أقول لنفسي وداعاً/ ثم اختفت البساتين) ويتعلم التصالح: (تعلمت في إخاء الأشجار،/ كيف أتصالح،/ ليس مع ذاتي:/ مع ما يرفعني، يسندني، ويتركني أسقط).
بصفته النباتية الشعرية تلك يعرفنا أوكتافيو باث على أفعال النباتات، ففي قصيدة اللوتس الذهبية نعثر على سر اللوتس: (في منتصف الليل/ تسكب/ في اذن عشاقها،/ ثلاث قطرات من نور بارد) ، ونتعرف على أنواع من الأشجار وحركاتها: (شجرة تغلي غرباناً)، (تمشي أشجار الحور السوداء/ دون أن تغير مكانها)، (الشجرة ذات الجذور الهوائية التي تشرب ليلاً من الشمس/ الشجرة الجسدية   الشجرة الفانية)
التيه الهندي المزدوج
أنا خلف أوكتافيو باث ما دام هو تائها في الهند، يكتب شعراً عن الهند كما في كتاب الخلق: (كان القمر من ماء،/ والشموس من ماء،/ والسماء تحل ظفائرها/ فإذا هي أنهار تتدفق/ وتغمر القرى،/ فيختلط الموت بالحياة مزيج وحل وشمس،/ فصل شبق ووباء/ فصل شعاع على شجرة الصندل/ كواكب تناسلية مقتلعة/ تتعفن/ ثم تبعث في فرجك./ أنت أيتها الهند الام./ الهند الإبنة)
ودلهي هي (دل هي) حيث دل تعني القلب وهي مدينة القلب (دلهي/ برجان مزروعان في السهل/ مقطعان لفظيان أرددهما هامساً/ متكئاً على الشرفة)، (دلهي وحجارتها الحمراء/ نهرها العكر/ قبابها البيضاء/ قرونها الممزقة،/ تتغير: هندسات بلا ثقل، تبلورات ذهنية) والتيه تيهٌ أصيل: (كنت هناك/ لست أدري أين/ أنا هنا/ حيث لا أدري). سيستمر ذلك كشفافية يحملها أوكتافيو باث في قلبه على امتداد القصائد المجموعة في هذا الكتاب أو خارجه، حتى بين الأشجار:(حيث لا أحد): (ما من روح/ بين الأشجار/ وأنا لا أدري إلى أين ذهبت)
الشفافية تخرج من كونها بصرية لتكون موسيقية وصوتية، تتثبت خارج الورقة الشفافة في الشعور الشفيف؛ فأوكتافيو باث يذكر هيئة ضياعه في نص كونشيرتو في الحديقة: (أمشي ضائعاً في مركز ذاتي) ص46.
والتيه الهندي -وهو نوع خاصٌ من التيه- متاحٌ بوضوح في شعرٍ يتحدر من ضفة البحر الأخرى بهنديته اللاتينية إلى ضفة الهند، حتى نشعر بتلك الصفة والخصوصية ونحن نقرأ أو نسمع شفافيات القصائد: (أجهل خاتمة ما أكتب/ أبحث بين السطور/ صورتي هي المصباح/ المضاء/ في منتصف الليل).
ينبوع الصور الصوتية باذخ: (رحم المعبد/ موسيقى شموس متشابكة) الشموس المتشابكة! من أين يحلب أوكتافيو باث (حجر الشمس) بهذه الطريقة :(ما بين الأنوار المتلاشية/ لا ضياع للصور/ بل تجسيد للأسماء/ عالم نبدعه لنا جميعاً/ شعب علامات)، هو هكذا لأن الحقيقة هكذا، ولا ضياع للصور ما دامت تخرج من ينبوع
 لذلك يأتي سؤال الينبوع حارقاً في حيرته:
(أصدق النجوم أم أصدق البشر؟).
الشعر في الموسيقى والشعر، وأنا
أنا أقرأ وأستمع إلى dream John Cage، أوكتافيو باث كان يكتب ويسمع، يكتب قصائد خاصة مثل (قراءة جون كيج) الموسيقار الأمريكي، حيث نتعرف على الموسيقى وهي تسيل في الشعر، فالشعر يدمجكلمات جون كيج في نسغ القصيدة، حيث جون كيج ياباني: (يوجد إنسان/ هذا الإنسان هو جون كيج/ حدد بأنه (لا وجود لشيء في الوسط)/ قال كلمة ليست/ صمتاً: سوف تسمعها بعد سنة بدءاً من يوم الاثنين/ الظهيرة فجأة: غير مرئية) وذلك ما حدث، إذ أن ما يقتبسه أوكتافيو باث من كلمات جون كيج هو قراءة لجون كيج، قراءة الموسيقيّ والإنسان في جون كيج عبر وضع كلماته نفسها بين المرايا الشعرية، في المكان الذي يكون فيه بروز الكلمات متضاعفاً فتتحقق (قراءة) جون كيج.
من يكون في النهاية أوكتافيوباث إن لم يكن هندياً، إنساناً، شاعراً، وشجرة (أنا ماء أنا ليل/ أنا غابة تتقدم/ أنا لسان/ أنا جسد/ أنا عظمٌ شمسي) يحدث هذا لمن هو مغتبط بوجوده كعاشق: (أنا جانحٌ عن الزمن/ مأخوذ ومولع/ عاشق لهذا العالم/ أمشي تائهاً في ذاتي/ متلمساً/ أطلب المثابرة والتجرد)
شكراً لمحمد علي اليوسفي على ترجمته لأوكتافيوباث، لمثابرته المستمرة في تقديم شاعر كبير بحجم باث نحتاجه كثيراً في لغتنا العربية، نحتاج شاعراً يثبت شيئاً مهما كـ:
 (أحدثك دائماً تحدثني دائما/ أتقدم في الظلام وأزرع علامات)، أوكتافيو باث الذي يختم قصيدته هكذا: (في هذا الهنا الذي لا مكان له/ كلام!/ أنتهي في بدايته/ أنتهي فيما أقول/ أنتهي/ وجوداً/ ظل اسمٍ آنيّ/ أبداً لن أعرف نهايتي)
..حين أكون ظامئاً يدلني الشعر على روح الماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق